«استمتاعي بالحياة لا يتغير، سواءً كنت في عز شبابي، أو كنت شايباً (الرجل المتقدم في العمر باللهجة المحلية الخليجية)، كما يطلق عليَّ البعض»!
هكذا يلخص، الصحافي السعودي الشهير، عثمان العمير، فلسفته التي راكمها مع تجارب السنين، فالعمر بالنسبة له، وكما يقول، مجرد أرقام!
الحقيقة أن هذا الحديث العميري، ليس ادعاءً، فمن الممكن أن يهاتفك عثمان صباحاً من مراكش المغربية، ليخبرك أنه في طريق لإحدى العواصم الخليجية بعد بضع ساعات، وما إن يصلها ويلتف إليه الأصدقاء والمحبون، حتى ينسل منهم مستقلاً طائرة ليلية، تحط به فجراً في عاصمة الضباب، لندن، التي يصلها ليلتقي شخصاً في العاشرة في متحف ما، وثانياً في مقهى بعد الظهيرة، وثالثاً عصراً، ثم ينهي اليوم بدعوة بضعة أصدقاء في منزله ليلاً، لتبدأ نقاشات لها أول وليس لها آخر، في الفنون، والسياسة، وربما انتقلت للرياضة، وقد تصل للحديث عن عارضات الأزياء!
لا ينفك من يعرف عثمان، متسائلاً عن سر هذا التوهج المستمر، رغم أن الإعلامي الأشهر، بلغ أو أوشك سبعينيته الأولى.
والحقيقة، أن أحد أسرار هذا البريق، يكمن في إصراره، على التعلم، ومن يصدق في رغبة التعلم، لا يمكن إلا أن يتواضع للمعلومة، ويخضع لمن يملكها، ويدمن على السؤال، متجاوزاً وهم المقامات المهنية.
ما زلت أحتفظ بكتاب أهدانيه الأستاذ، وكتب بكل تواضع: إلى تلميذي وأستاذي… علمتك الصحافة، وعلمتني الدنيا… علمتني الإنترنت!
الحقيقة أنه كان يركض باتجاه الإنترنت ليلتقط كل شاردة وواردة، يوم كان مجايلوه، يتندرون على ما يعتبرونه تصابياً!
لكن الرجل الذي ألهم الصحافيين السعوديين، عندما ترأس مجلة المجلة اللندنية، ثم جريدة الشرق الأوسط، ليكون السعودي الأول الذي يحتل هذا المنصب، بعد أن كان حكراً على الزملاء الصحافيين المصريين واللبنانيين، ولم يبق أحد لم يشكك في أهليته ويتنبأ بفشله، فكانت فترات رئاسته للمجلة الأشهر آنذاك، ثم الجريدة الخضراء بعدها، أنجح مراحل المجلة والشرق الأوسط.
بعد رحيله من الشرق الأوسط، مارس عادته التي يعرفها القريبون منه، فجاء بفكرة لم تخطر ببال أحد، وقرر أن يتحول من موظف بمرتبة رئيس تحرير، إلى مالك ورئيس تحرير (إيلاف) التي كانت من أوائل الصحف الإلكترونية العربية، والتي صدرت في ٢٠٠١، وكانت أشهر موقع إخباري عربي، جمهوره العرب كافة، من المغرب إلى الخليج، وظل متوهجاً لأكثر من عقد من السنوات.
لم يتخل المستثمر عن مقعد الصحافي، فبقي عثمان العمير رئيساً للتحرير، يعقد اجتماعاً يومياً مع فريق التحرير الذي تفنن كعادته في نسجه فسيفساء غريبة، متناقضة، متناسقة… بينها محمود عطا الله، رحمه الله، الصحافي المصري، الأرستقراطي، الثمانيني، وسلطان القحطاني، الشاعر البدوي الحداثي، والصحافي السعودي المختلف، الذي لم يبلغ العشرين آنذاك، وبينهما محترفو صحافة، عاشقون لجنون عثمان العاقل، من العراق، ولبنان، وتونس، والمغرب.
مجدداً، خرج المراهنون على فشل عثمان، بخسارة فادحة، وشرّقت إيلاف وغرّبت، وأصبحت على كل لسان، بمواكبتها لعالم الصحافة الإلكترونية الجديد، ومحافظتها على تقاليد المهنة، وصبوتها، واختلافها، وإبهارها.
من يتابع يومياته وأسفاره، عبر حسابه في إنستغرام، يشعر بالسعادة الغامرة، فللرجل طريقة متفردة يصنع بها سعادته… طريقة لم تُبن على سابق مثال، بل صاغها عثمان بين وعيه ولا وعيه، مستنداً على نتاج خبرته المتراكمة، وموقفه الوجودي، الذي ربما لا يتسق وركضه المتواصل كأطفال فرحين بجرس الانصراف… يركض جذلاً بضحكات مجلجلة في مضمار الحياة، ضحكات تُعلمك أن تسعة أعشار السعادة، تعتمد وجوداً وعدماً، على ما تُرتب في عقلك من أفكار، وعلى رغبتك المتجددة في القفز مُن حفر الطريق الطويل، أو يأسك من تكرار القفز، وركونك إلى الكسل، وإيثار البقاء أسير حفرة، تندب الحظ العاثر، وتشتم خبث الحفّارين!
دأب العمير منذ ولادته منتصف القرن العشرين بمدينة الزلفي، شمال غربي الرياض، على تغيير عادته، بدواعي التململ حيناً، وسطوة المزاج أحياناً أخرى، لكن شيئا واحداً بقي هو أكثر الأشياء ثباتاً، عند الفتى المتعلق بأمه، من خلال أحاديث يرويها عنها لِماماً، خشية سيطرة العاطفة الطاغية، على رجل يحاول أن يتلبس لبوس العقلانية دوماً…
ثابت عثمان الوحيد، والمستمر طيلة سبعة عقود، هو إيمانه لدرجة الولع بالاكتشاف، وحدِّث عن جسارته وجرأته حد التهور من أجل هذا الاكتشاف.
الشاب المتمرد، ولد في بيت والده؛ عالم الشريعة الإسلامية، المتحمس لعالمية الإسلام، لدرجة أنه انتقل وأسرته في سبيل الدعوة، من الزلفي إلى المدينة المنورة، ليكون أحد أعمدة الجامعة الإسلامية، كعبة طلاب العلم الديني المسلمين، من الهند والسند شرقاً، وحتى أفارقة ما بعد أفريقيا غرباً.
وفي المدينة، التي تجمع ما لا يخطر على بال من الثقافات والشعوب والجنسيات، أُشبعت رغبة الاكتشاف مجدداً عند اليافع عثمان، وكان انفتاح المجتمع المديني، وسيلة لحصوله على مشارب ومصادر متنوعة، لثقافات لا حصر لها، فأدمن شراء المجلات، وبات يخبئ روايات نجيب محفوظ، وكتابات جبران خليل جبران، بين دفتي كتب الشريعة، خوفاً من اتساع قائمة الممنوعات في منزلهم، الذي تحول فندقاً صغيراً، يستضيف زوار المدينة من الشخصيات الإسلامية الكبرى، والطلاب الجدد الذين يستغرقون في بيت والد عثمان أياماً قبل الانتقال لمقرات سكنهم.
سألتُ عثمان، عن المدينة المنورة، التي انتقل إليها بعد افتتاح الجامعة الإسلامية عام 1961، وهو صبي يافع، فقال: «المدينة هي التي أطلقتني إلى لندن، بالفعل تختلط بهذه المدينة الألوان واللهجات، وكانت صورة بديعة في مظهرها وفي مخبرها، إنها مثل بابل، وربما بعض مشاعري الإيجابية تجاه لندن، ترعرعت دون أن أعلم في أجواء انفتاح المدينة».
صبغت المدينة النبوية، عثمان العمير بصبغة التنوع، تلك التي تعتز بالتنوع، باعتباره ثراءً، لا اختلافاً وتبايناً.
كانت جموع الأمم التي تمور بها يثرب، وصنوف المشارب والاتجاهات والعادات، تشبه لوحة تشكيلية تنتثر في جنباتها ألوان لا تحصى، دون أن يحاول لون أن يلغي اللون الآخر، في مشهد يرسم اللوحة ويعيد صبغ الألوان مجدداً كل يوم، دون انخفاض في جودة الشكل وعدالة التوزيع، وتكامل التنوع.
لا شك أن هذه المدرسة الفكرية من جهة، الفنية من جهة، هي التي خلقت عشق الفنون لدى العمير. هذه الخبرة المبكرة، منحته القدرة التي يمارسها اليوم باقتدار، في تحمل الآراء المتعددة والمعارضة له حد الإقصاء، ومع ذلك تراه يعترض على فكرة «الحظر» في السوشال ميديا، ويخاطب كل متلقٍ بأسلوب يناسبه، دون أن ينتقص من قدره.
أما الرياض، التي هاجر إليها العمير من المدينة، وهو ابن ستة عشر عاماً، بحثاً عن الحقيقة المهنية، فكانت ميدان بدايات الشغف، شهد الرياضة ملتهبةً، تشعل جذوة نار حماستها الصحافة، فكان هذا المشهد حامي الوطيس، بالنسبة للعمير اكتشاف من وجد ضالته. إنها المهنة التي لا يتقاعد محترفها أبداً. شغف هذه المهنة هو الذي جعل الرجل الذي كبر بالصحافة، يختار بعد أن تعددت الواجبات، وتكاثرت الأدوار والمهمات، يُصِرُ على أن لا ينعت بغير وصف تلمع عينيه ببريق الفرح به… إنه الصحافي!
لم يحرق عثمان المراحل، بل قضى في كل مرحلة وقتها وزيادة، فمنذ أن عمل مراسلاً رياضياً، مروراً بذهابه إلى لندن عام 1975 وهو في الخامسة والعشرين من عمره، للعمل والدراسة معاً، وحتى ولادة ابنته الوحيدة، إيلاف، كان العمير يدرك تماماً أن المنافسة في هذه الحرفة شرسة، لكن حسه الفكاهي، ومحاولته الدؤوبة لتحويل المحن إلى منح، خلقت من شائعات الخصوم، وهجائياتهم، وحملات التشكيك، دافعاً لمواصلة الركض… ركض من يحرص على سرعته، لكنه يتلفت بدائرة ٣٦٠ درجة بحثاً عن المختلف، والجديد، والمثير، حتى يقدم صحافة مختلفة، تحولت لصحافة خالدة مع الأيام.
قبل عقود، اتهم خصوم جريدته (الجزيرة)، صحافيي القسم الرياضي فيها، بأنهم غارقون في ميولهم لنادي الهلال، فلم يهتز له رمش، ولم ينف التهمة، بل أصدر الملحق الرياضي في اليوم التالي بعنوان على ثمانية أعمدة: (هلاليون… واشربوا من ماء البحر)!
وأين البحر من مدينة الرياض، مقر الجريدة، المتربعة في الصحراء على بعد ٤٠٠ كيل من الخليج العربي، وثلاثة أضعاف هذه المسافة وزيادة بعداً عن البحر الأحمر؟
وعندما اختلف المسعري والفقيه، قطبا المعارضة السعودية بلندن، على الأدوات المكتبية، أخرج قلمه ليكتب في أولى الشرق الأوسط: (خوش معارضة!). وخوش كلمة فارسية الأصل تستخدم في الخليج العربي، على سبيل السخرية المدقعة من شيء ما!
يُحسب للعمير، أنه قاد الصحافة العربية، ليحتل عناوين صفحاتها الأولى موضوعات علمية وطبية وتقنية، بعد أن كانت السياسة، لا شريك لها في الصفحة الأولى!
تعَلّمَ عثمان في جريدة (الجزيرة)، فتراه يتحدث عن الأستاذ خالد المالك، رئيس تحرير الجزيرة آنذاك، وحتى الآن، ملقبا إياه بـ«أستاذنا الكبير»، إجلالاً وتقديراً واحتراماً للمالك، الذي فتح الأبواب وشرع الميادين لمبدعين شباب، أصبحوا قيادات الصحافة السعودية بعد حين.
في المرحلة اللندنية، إذ ترأس عثمان تحرير المجلة لعامين، فالشرق الأوسط ثمانية أعوام، وجد الرجل نفسه، لا يواجه رقيباً واحداً، بل أكثر من عشرين رقيباً في بلدان العالم العربي كله، ما يستوجب الحذر، لدرجة لا تسمح باهتزاز نجاح الصحيفة الخضراء. فاختار شعاراً لها: «الجريدة الناجحة، لا تتثاءب»، لذا أقبل عليها كل زعيم عربي، فور استيقاظه كل صباح، لطرد التثاؤب بعد سكون النوم!
وكما يصنع النجاح أنصاراً ومعجبين، يخلق أضداداً لكل ناجح من الحاسدين.
اقترب العمير من زعماء، ونفر منه أصدقاء، بمبررات في الأولى وبدونها في الثانية. لكن اللافت كان قربه من ملكين: الملك فهد بن عبدالعزيز، العاهل السعودي السابق، والملك الحسن الثاني، العاهل المغربي السابق، رحمهما الله.
ولعل محبة الملكين لبعضهما وثقة كل واحد بنظيره، جعلتهما يُقربان العمير منهما.
سألته ماذا يميز كل ملك من الملكين؟ فرد: «كل واحد منهما كان يمثل منطقاً وقوة وذكاء، ومعرفة وتبصراً بالأحداث. الملك فهد، صنع تحولا في الدولة بوعيه وإدراكه ومعرفته، منذ كان وزيراً للمعارف (التعليم)، فالداخلية، حتى أصبح ملكاً، فجمع بين التجربة والذكاء والإحاطة بالأمور. الملك الحسن الثاني، تشدك فيه معرفته الموسوعية، وترتيب أفكاره، وتسلسلها، كأنها مسبحة منتظمة الحبات، والنتيجة حتمية؛ يأسرك بحديثه. مرة واجهت مشكلة مع أبناء الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، وكنت عند الملك الحسن، فقال لي: علمت بمشكلتك مع أبناء الرئيس مبارك، وبالمناسبة أستطيع أن أساعدك في القضية، فلا تنس أني تخصصت في القانون، ولذلك سأساعدك بوصفي قانونياً، لا بوصفي ملكاً. في ملاطفة من الراحل الكبير للتخفيف من وقع الأمر عليّ».
وقع بين يديّ كتاب طبعه العمير وأهداه إلى الملك الحسن الثاني، في ١٩٩٤، بطبعة خاصة؛ كتب لها عثمان تصديرًا بديعًا؛ ساق خلاله دفاعًا نادرًا عن الإسلام، الذي ينتصر فيه جمال العمران والروحانيات، ومبدأ الإضافة، ومنهاج التلاقح، ولقاء الآخر… ينتصر على شعارات القتلة الذين يسرقون الدين. يتأمل العمير في توطئته للكتاب، جماليات مسجد الحسن الثاني، الذي يرقد في حافة الأطلسي ببهائه المميز، وكأنه رسالة إلى بلاد ما وراء البحار، وللعالم بأسره، أن الإسلام الصحيح، حيّ وجميل وقادر على هزيمة غول التطرف.
الكتاب الذي حمل عنوان «رنات المثالث والمثاني في كتاب الأغاني»، له قصة بذاته، فكان الحسن الثاني أبدى للعمير ذات لقاء، أنه كان في صباه يطوف بين حدائق هذا الكتاب الذي لخّص زبدة كتاب الأغاني للأصفهاني، متحسراً على تصرم نسخ الكتاب من المكتبات، وعدم تجديد طباعته من دور النشر، فطفق العمير يبحث عن مخطوطات الكتاب، بحث المحب المدرك مطلوب الملك المثقف ومقدار شغفه بكتاب ساهم في صناعة ثقافة ملك لا يأتي ذكره دون التعريج على ثراء مخزونه اللغوي. فما إن وجد المخطوطات بين ثلاثة بلدان عربية حتى رتبها، وهيأها للطباعة، وختم تصديره للكتاب بأنه يهدي الملك هذا الكتاب، مشيراً إلى تفرده بأولوية أن يهدي صحافي ملكٌ كتاباً في هذا القرن على الأقل، مشيراً إلى أنه «لو كان كاتبه حياً لما تورّع، بل لتشرف بأن يهديه إلى السيف الذي لم يحتج إلى شاعر ليسري به في فضاء التاريخ». في لفتةٍ رائعة وبديعة، تليق بعاشق الأغاني وسيف الدولة!
للعمير ذائقة تلتقط الجمال، وتنتمي له، تحتفي به وتنافح عنه، لذلك يعيش في توأمة مع عشق أبي الطيب المتنبي، مسلماً الزعامة الشعرية له دون غيره من شعراء عصره، بل من شعراء العرب جميعاً. وحين تحاصر العمير باتهامات خصوم المتنبي بتسوله وتكسبه بالشعر، تجده قبل أن يخبرك أن كل الشعراء تكسّبوا بشعرهم، حتى غريم المتنبي (أبو فراس الحمداني)، يقول في مرافعة دافئة النبرة: «المتنبي رحلة طويلة من الإبداع، لذلك ليس مهما كيف عاش؟ المهم هو عطاؤه الذي خلّفه وما زال يردد، منذ ألف عام إلى اليوم»، ثم يستحضر شيئاً من محبته للأدب العربي، فيقول: إن كان الشاعر في التاريخ هو لسان القبيلة، فالمتنبي هو لسان العرب.
ويلتقط عاشق المتنبي إلماحة ذكية معتبراً أنّ أبا الطيب، إن بسبب الإبداع أو بسبب حسد الحساد، هو مدرسةٌ، ولا يمكن التعامل معه إلا باعتباره ظاهرة أدبية. ويرى عثمان العمير في أمير الشعراء أحمد شوقي، متنبي عصره، ولولا تآمر حساده عليه، لازداد تألقاً وتميزاً ونجوميةً، والسبب عند أستاذنا هو «غيرة بعض الناطقين باللغة العربية، الذين حطوا من قدر شوقي، غيرة وحسدًا، والحق أنه شاعر مبدع جدًا، ومتعدد الأساليب والموضوعات، قوي العبارة، رشيق الأسلوب، في ما قدمه للشعر وللغة العربية».
لو سمح لي الأديب السوداني الأنيق أدباً وتأدباً وثقافة، الطيب صالح، وهو صديق العمير، أن أستعير عنوان أحد كتبه، لأصف صاحبنا وأستاذنا عثمان، فإنني سأقول إنه إنسان نادر على طريقته. تكمن ندرته في فهمنا له.
قد يتفق من تسألهم عن العمير، في أن أبرز صفاته أنه فكراً وسلوكاً وطبعاً، خارج عن الصندوق، لكنهم سيتباينون أشد التباين في توصيف ماهية هذا الخروج! لكأنهم يقفون مذهولين أمام لوحة فنان تشكيلي، تقدح في داخلهم شعورًا بالتفرد والإعجاب، يهيم كلٌ منهم بوادٍ في التفسير، ولا يكاد اثنان يتفقان على سبب واحد. لو تجاوزنا سلبية اعتبار البعض تعدد الوجوه مكرا وخبثا غير مستطاب، لقلتُ إن لعثماننا هذا: هويّةٌ بأربعين وجهاً، وربما بعدها بقليل سأذهب إلى أن له وجها بأربعين هوية. الأكيد أني سأخلص إلى أن لعثمان، أربعين هويةً بجمال واحد. يبدو لك أنه لا يهتم بما تراه أنت، لكنه يجيد تملك ما ستشعر به، وممارسة ما يعتقده جمالاً، مؤمناً أن الطبيعي أن يختلف الناس معه، وطبيعي جداً أن يوافقوه بعد أيام أو شهور!
أثر المتنبي في أسلوب ومخيال العمير بيّن وبارز، لكنّ أستاذنا يتحرك في مساحات غير متوقعة، برشاقة ساحرة، وكأنه يرى زوايا لا يراها كثيرون، فمن أين اقتنص هذه المَلَكة؟ سألته، فحشد لي نخبة من الصحافيين والأدباء الذين تأثر بهم: «أعتقد أن أكثر كاتب أعجبني هو غسان تويني، كنت معجبًا به جدًا، ولحسن الحظ أني عاصرته وتعلمت منه الكثير. يعجبني مصطفى أمين وقدرته على التفوق»، ولعل عثمان استلهم الجمع بين المتغيرات، من محمد التابعي الذي يقول عنه: «يعجبني التابعي كثيراً، فق جمع بين الفن والسياسة والمتغيرات، وكانت له شهرة خارقة في مصر». كما أُعجب بنجيب محفوظ، ورغم أنه مُقِلٌ في الكتابة، إلا أنك تجد في أسلوب العمير شيء من نجيب محفوظ، فهو إن كتب يحيل العاديّ إلى مميز، ويصل بالمحلي إلى العالمية بيسر يحسد عليه. وأخبرني أنه في يفاعته «قرأ كثيرًا لجبران خليل جبران، خفية، هرباً من أعين ورقابة المتدينين»! قلت في نفسي: كم يرسخ في العقل ما تقرأه في الخفاء، ربما لأن حالة القلق التي تعتري اختلاسك النظر للسطور، تزيد من قيمة ما تقرأ في نفسك، وتُحلي طعم الحروف في حلقك!
لا يزال عثمان يشعر بزهو، وتشعر أنت بالحياة، حين تسمعه يقول: «قرأت لتشارلز ديكنز بدايةً بالعربية، ولحسن حظي أصبحتُ أسكن بجوار منزله، وفي نفس الوقت أعيش الحيوات التي كان يعيشها، وأغشى الأماكن التي كان يطرقها وأشاركه محبة لندن».
في داخل العمير فوضى منظمة، لا تفهمها إلا حين تضع كتبه أمام بعضها، وتَصفَ مشاريعه قبالة بعضها، فإنّك لو فعلت ذلك، سرعان ما يضج سمعك بضوضاء معاركه الثقافية، ثم تتحوّل إلى موسيقى ناعمة، متسقة، وتكتشف بعد طول تأمّل، أن العمير يحب ثقافته العربية جدًا، ولكنّه يكره وعود الخلاص. وأنّه في مسار نضجه المدهش، صار متيماً بالأسئلة أكثر من شغفه بالأجوبة، صار مفعمًا بحب الثقافات المتزامنة، بالمناهج التي تتعارف، لا يرى في مزاحمتها شبحًا يهدده، بل يُشعرك أنّه يتغذّى من هذا التعدد، وحينما تصل إلى معرفةٍ صافية، ترى المرح في مشاكسته للمنغلقين ومصاحبته للمتسعين، ووقوفه منفردًا متى شاء، وتعلم أنّه يفعل ذلك بمرح، وكأنّ رئته تتسع، وعقله ينفتح، ويصبح ابن الطبيعة البكر!
المقابسات التي نشرها العمير في كتاب، في نهايات القرن الماضي، وحوت أهم حواراته مع قيادات القرن المنصرم، يفكر في إعادة طبعها، ليضيف عليها بضعة حوارات لم يشملها الكتاب الذي تكمن قيمته في مقدمات الحوارات التي كتبها الأستاذ برشاقة راقصة باليه تتنقل بيسر وسهوله بين السياسة والتاريخ والأنثربولوجيا وقراءة الشخصيات، والتقاطات الصحافي الهائم بتقديم عمل مهني مختلف.
حاولت تكرار بعض الاستفزاز المحبب للعمير، فقلت له: لماذا لا تعترف بأن انصرافك عن الكتابة وخصوصاً كتابة تجربتك سببه الكسل؟! لم ينف التهمة ولم يقرها. تردد مرتين، بمزاجية وتلطّف، وقال: لا أريد أن أفضح أسرار الزملاء. قلت له: هذا العذر شنشنة نعرفها من أخزم. تبسم، وقال لي بقلبه الطيب: أشعر بأني سأعيش طويلاً، فلم العجلة؟!
لك عمرنا يا أبا إيلاف، ما ألطف الحياة معك!