يَسْتَفِزُّكَ تركي الدخيل بمقالِه: «أعتذر». يغْصبكَ على التفكير خارج المساراتِ التي تطوّق حركتَكَ وثقافتَك. ينْقلكَ إلى «مساحاتٍ فاضلةٍ» تتلاشى أمام واقعيةٍ مُسَيْطِرَة. يصيبكَ بأعراض انسحابيةٍ عندما تنْسى نفسكَ وتنْسجم مع رأيه في أن الاعتذارَ «يُذهب سوء الظن، ويقف شامخاً، يزيد من قامة المُعتذر، أياً كانت زلّته»، فتبدأ حكَّ رأسِك أو النظرَ إلى أناملك وتأخذكَ الذاكرةُ إلى أماكن وأزمنة لا تريد زيارتَها… قبل أن تستعيدَ واقعيّتَكَ وتتنفّس بِعُمْقٍ وتقول بينك وبين نفسك: الحمد لله كان مجرّد مقال.
عندما كرّتْ سبحةُ «عندي حلم» التي أعلنها العام 1963 مارتن لوثر كينغ كانت الدنيا تتسّع للأحلام، للمُلْهِمين، للباحِثين عن عالمٍ أفضل بعد حربيْن كَوْنيّتيْن طاحنتيْن وثالثة باردة لا تقلّ عنهما سواداً، لرافضي حصْر أختام الكوكب بيدِ حفْنةٍ من الأشخاص يَبْنون طواحين من الشعاراتِ والأوهام «دقيقُها» الفعلي عظام البشر، لرافضي التمييز بكل أنواعه وداعِمي انتشار الحقوق بكل أنواعها، لأيقوناتِ الحِراك ورموز الحريات.
في التشارُك الكوني، سبق الحلمُ الثورةَ التكنولوجية بأجيال ووحّد العالم في قريةٍ إنسانيةٍ مع اختلافِ أدوات التواصل… منهم مَن جَهَرَ بما يريد وحَقَّقَهُ، ومنهم مَن جَهَرَ بما يريد ولم يحقّقه، ومنهم مَن جَهَرَ و«استشهدَ» حالِماً، ومنهم مَن أخفى حلمَه حتى اللحظاتِ الأخيرة ثم أَدْخَلَهُ مداراتِ التوريث قبل أن ينتقل إلى مدارٍ آخَر.
في هذا الجانب من العالم، عالمنا الإسلامي والعربي، كنا الأكثر بؤساً في واقعنا وفي أحلامِنا وفي خيْباتِنا وفي وعْينا وقراءاتِنا السياسية وقُصْرِ نظرِنا. هنا، يصبح الاعترافُ مدخلاً للاعتذار من دون الجزْم بقدرةِ الأخير – أي الاعتذار – في التغيير… وخصوصاً في «الأمة الواحدة ورسالتها الخالدة».
وإذا جازَ للاعتذار أن يصبحَ مساحةً للبوحِ قبل أن نتقبّله جسراً للتغيير، فعندي منه الكثير.
أعتذرُ من نفسي أولاً ومن جَسَدي المُنْهَكِ لأنني أمضيتُ جزءاً من وقتي يافعاً في المدرسة أصفّق لصوتِ وصورةِ الزعيم و«أرْكب» أي قطارٍ بشري مُتَظاهِر أمام بيْتِنا ومدْرستِنا مُرَدِّداً كالببغاء هتافاتٍ أستعيدها اليوم فأشعر فعلاً كم كنتُ أهين عقلي بها.
وأعتذرُ عن غيابي أمام حضورِ «الأخ» أو «الرفيق» أو «القائد» أو «الشيخ» متنقّلاً بين تجارب حزبية وسياسية وعقائدية، وعن قمْعي لمشاعري وجَلْدي لآرائي وتطويعها لتتّسق مع مواقف «المُلْهِم» كي لا أشعر بالخيانة حتى بيني وبين نفسي.
وأعتذرُ عن رفْعي لفتراتٍ «قدسيةَ» القيادة والزعامة والعمامة على قدسيةِ النظامِ العام في الدولة وقوانينها ومؤسساتها، وعلى تغليبِ بيان الأمين العام أو الرئيس أو الشيخ وأدبيات الحزب على كتاب التربية المدنية الذي كنتُ أغيب عن فصله، وعلى مفاهيم الانتماء الوطني التي لبسْتُها كما فُصِّلَتْ لي.
وأعتذرُ من والدي رحمه الله على تَمَرُّدي المبْكر على نصائحه، وعدم تقبُّل أجهزتي السمعية وشبكة الاستيعاب لمجرّدِ الحوارِ معه وخصوصاً عندما يرْوي بحنْكةِ الخبيرِ قصصَ التجاربِ اللبنانية المماثلة التي انتهتْ إلى الخيبةِ فيما الزعماء اغتنوا وأَغْنوا أولادهم، وكنتُ أردّد على مسامعه جملةً واحدة: لا توجَد حركةُ شعبٍ بل حركةُ طليعةٍ صامدةٍ صابرةٍ تحقّق أهدافَها ثم يلْحقها الشعب… فينسحب من النقاش إلى إكمال قراءة كتابه أو صحيفته وهو يقول: «سلّم على طليعة إذا شفْتها».
وأعتذرُ عن دفْني لعقلي مرات كثيرة في كفن النقْل حتى لو كان بعض النقْلِ يحضّني على إعمالِ العقل.
وأعتذرُ عن كُرْهي لـ«الآخَر» في فتراتِ التعبئة والتحريض والاستقطاب، وعن تَناوُلي بانتظامٍ عقاقيرَ المفاهيمِ الحزبية والعقائدية الضيّقة لضرْبِ مناعةِ الارتقاء بالمَشاعر الإنسانية، وعن استهزائي وكُرْهي لقاماتٍ متحضّرةٍ فكراً وسلوكاً فقط لأنها نقيض تَخَلُّفي آنذاك.
وأعتذرُ أنني في فتراتٍ كثيرة كنتُ محكوماً في حركتي من موتى… من القبور. تَحَكَّمَ في تفكيري ورؤيتي بَشَرٌ مثلنا رحلوا منذ عقود وقرون، لا هم بأنبياء ولا هم قدّيسون.
وأعتذرُ، عندما هاجرتُ شاباً بعد الجامعة، عن الوقت الطويل الذي أَمْضَيْتُه للتأقْلمِ والاندماج في المجتمعاتِ الجديدة بسبب ذلك المخزون المُخيف من التعبئة وغسيل المخّ والفهْم الخاطئ المقيت للموروث والتراث وعظَمة التاريخ و«عظَمتنا» معه والتفاسير والممنوعات والمحظورات.
هل أُكْمِلُ الاعتذارَ عن تصديقي لوهمِ استفاقةٍ دولية دعْماً لحقوق إنسانٍ هو في فلسطين مثلاً مُخَيَّرٌ بين أن يكون قتيلاً أو شهيداً؟ وفي سورية مُخَيَّرٌ بين أن يموت ببراميل الأسد أو مُخْتَنِقاً بالكيماوي أو مذْبوحاً من ميليشيا إيران؟ وفي دويلاتِ «الجهاد» مُخَيَّرٌ بين قطْع الرأس أو الحرْق العلني؟ وفي ليبيا مُخَيَّرٌ بين الموت بالرصاص تحت حِراب ميليشياتٍ مُتَصارِعَةٍ أو الموت بالتفجير تحت سياسةِ ميليشيات مُتَصالِحَة؟ وفي العراق واليمن وأفغانستان وباكستان وغيرها وغيرها؟ أم أن عليّ الاعتذار لأنني قبْل تصديقِ وهْمِ استفاقةِ دوليةٍ عليّ تصديق استحالةِ الرهان على استفاقةٍ فكريةٍ اجتماعيةٍ ديموقراطيةٍ عربيةٍ وإسلامية؟
يرى تركي الدخيل أن الاعتذارَ يبرئ المكْلوم، ويجْبر الخاطِرَ المكسور. عندي حلمٌ بأن أجاريه لعلّ وعسى… وإن كنتُ أعلم أنني قريباً جداً سأعتذرُ من حلمي.