غياب كاتب يومي عن الكتابة ما يزيد على خمسة وأربعين يوماً، يجعل أحداثاً جساماً تفوت دون أن يساهم قلمه في التعليق عليها، مع أنه قد يجد نفسه إبان كتابته، حائراً بين الفينة والأخرى، في البحث عن فكرة يداعبها وتداعبه.
من أين أبدأ؟!
أمن راحلين أعزاء ومؤثرين غادروا دنيانا الفانية وغيبهم الموت؟!
فمن أحمد البغدادي، إلى غازي القصيبي، ثم محمد أركون، رحمهم الله. ثلاثة من الكبار، الذين كانوا يجاهدون في بث النور، وإحلاله محل الظلمة الكالحة في عالمنا العربي.
وكنتُ قابلتُ الثلاثة في (إضاءات)، وأجريت معهم حوارات مطولة خارج البرنامج، وحظيتُ بفرصة القرب منهم، فوجدت فيهم تميزا علمياً، وحرقة على تخلف مجتمعاتنا، وتقهقر العقل العربي، وهم جمعوا إلى علو كعبهم ورقي مقامهم تواضعاً في شخصياتهم، أكدوا به أن العلم الحقيقي ينعكس على حامله عملاً وخُلقاً وسمواً بالتبسط مع الناس ولهم وأنساً بهم.
أول مقابلة تلفزيونية في تاريخ العبد الفقير إلى الله كانت مع القصيبي، وسأبقى أدين له بفضل ربما كان، رحمه الله لا يعرفه. إن أول عناصر النجاح في الشاشة الصغيرة ألا تلقي بالاً للكاميرا، فتكون على سجيتك وكأنها غير موجودة، على ألا تنسى أنك تظهر أمام الملايين، وهي معادلة تشبه السهل الممتنع.
ولما كنتُ سأقابل رجلاً بقامة الدكتور غازي القصيبي، فقد انشغلت به عن الكاميرا، فمن الذي سيحاور غازي دون أن يجهز أسلحة الغزو؟!
وقد شغل الله أبا عبدالله غفر الله له ولكم بتصريحات الوزير الراحل، وملفات البطالة والاستقدام الساخنة، فانشغل عن الكاميرا، حتى يرجو أنه أقام معها علاقة لا محل للنفور فيها.
وما زلت أذكر كيف أنه مازحني، عندما كررت الإشارة إلى أن ملفات العمل الساخنة، فقال باسماً: لماذا تصر على وصفها بالساخنة؟ فقلت له: إن ما يتعلق بأرزاق الناس ساخنٌ يا دكتور. فقبل المداخلة بتواضع الكبار.
أيضاً لا ينبو عن ذاكرتي، كيف أني بعثت للقصيبي رسالة أهنئه فيها بفوزه بميدالية تكريمية منحت له من الجمعية السعودية لرعاية المعاقين، عرفاناً بدوره الفاعل في تأسيس الجمعية، وكان سفيراً في البحرين، وطلبت منه أن يتيح لي أن أجري معه حواراً، لكني ولما أبلغ العشرين حولها، اشترطت عليه، أن يكون الحوار في إجازة نهاية الأسبوع، لكي أتمكن من السفر في غير يوم درس، فدخلت مكتبي في الصحيفة، صباح اليوم التالي، وإذا بفاكس مكتوب بخط يده، يشكرني على التهنئة، ويعتذر عن المقابلة بلطف، لأن الإجازة من حق عائلته، وهو لا يريد أن يقتنص من وقتهم أكثر مما يفعل. وقد التزم رحمه الله، بالرد على الرسائل بخط يده، كما أخبرني كثيرون. رحل غازي، وقد جمع المجد من أطرافه، أدبياً وإدارياً ودبلوماسيا، وهو مالئ الدنيا، وشاغل الناس، حياً وميتاً، وقد صدق يوم قال في مقدمة أحد كتبه: يعتبرني الشعراء إداريا، والإداريون روائياً، والروائيون كاتب مقالة، وكُتاب المقالات أكاديمياً، والأكاديميون بيروقراطيا. وأنا أرى أنني، بعد أن تجاوزت ستين عاماً، وخمسين كتاباً، تجاوزت الحاجة إلى تعريف… أو تصنيف!