حادثة دهس نيس الفرنسية مسّت العالم كله!
«داعش» تبنى العملية
كلمات ما بعد المجزرة الآثمة تحدّثت عن فرنسا بوصفها بلد التنوير.
ليس سرًا أن هذا البلد، الآسر بكل المقاييس، استطاع أن يعثر على ثيمة الإنسان الكبرى، المتمثلة بالأخوّة البشرية، وهي العبارة التي عزف عليها بيتهوفن مقطوعته التاسعة. التعليقات تمثّلت بكون هذه المدينة مر عليها الكبار والصغار، واستأنست بها جميع الطبقات الاجتماعية، بشتّى تكوناتها وانتماءتها.
قد تكون حالة الدهس نموذجًا لاستهداف الدولة، لا لسياساتها فقط، وإنما لما تمثله من تاريخٍ مؤثر على البشرية! فمنها انطلقت مؤثرات تاريخية كبرى، منذ ديكارت إلى جيل دلوز الذي تحدّث عنه الدكتور معجب الزهراني، مدير معهد العالم العربي بباريس بعد توليه للمسؤولية، حيث درّسه، ونهل من معينه في «السوربون الثامنة»، وقد كان دلوز من سلالة الفلاسفة الكبار منذ ديكارت.
الثقافة الفرنسية تنتج مفاهيمها الكبرى للعالم العربي والإسلامي. علاوةً على إسهام فرنسا في تنظيم القيم البشرية، عبر رموزها والنبرات العالية التي فجّرت المدنية بأرقى أساليبها. فإن جون لوك، الإنجليزي المؤثر على باريس، له إسهاماته في المدنيّة، وهو ما لمح إليه هولاند في خطابه، من أن الإرهابيين في يوم الحريّة الفرنسي كانوا يريدون استهداف هذا التاريخ النيّر.
بكتابه «في الحكم المدني»، يتحدّث جون لوك، المؤثر الكبير على الفرنسيين، قائلاً: «ولما كان البشر أحرارًا، ومتساوين ومستقلين بالطبع، استحال تحويل أي إنسان عن هذا الوضع، وإكراهه على الخضوع لسلطة إنسان آخر دون موافقته التي يعرب عنها بالاتفاق مع أقرانه على تأليف جماعة واحدة والانضمام إليها، كي يتسنّى لهم العيش معًا عيشة رخية متسامحة، ويستمتعوا بأموالهم ويأمنوا الشر (…) وهكذا، فإن ما ينشئ المجتمع السياسي ويكوّنه ما هو إلا اتفاق فئةٍ من الناس الأحرار على الاتحاد وتأليف المجتمع، فعلى هذا النحو فقط نشأت، وتنشأ، كل حكومة شرعية بالعالم».
أولئك المهاجمون بالشاحنات والأجساد المفخخة لم يستطيعوا فهم العقود الاجتماعية التي نشأت في أوروبا بتأثير نظري صلب، والمسألة لا تتعلق فقط بالمعنى الراديكالي الذي تجاوزتْه فرنسا منذ الحروب القديمة، حيث كانت السوربون نفسها، موضع التنوير الحالي، نقطة بثّ للظلام إبان الحروب الأهلية الكارثية. الفرق الذي تأتّى كان عبر الرموز الفرنسية الذين يتغنّى بهم ساسة فرنسا بعد كل حدَث، ومنهم ديكارت الذي أسهم في رفع مستوى التفكير والتنوير بأوروبا والعالم، واستطاع عبر رؤيته العليا بالعلوم والمعارف ربط الوعي الإنساني بالأرض، وبحسن العيش والتعايش، وفهم ما يدور حولهم.
هاشم صالح، صاحب الكتاب الغني «مدخل إلى التنوير الأوروبي»، يتحدّث عن ضربة ديكارت: «لقد أثر هذا الفيلسوف على شعب بأسره، وطبعه بطابعه، إلى حد أننا لم نعد نستطيع التمييز بين الشعب والشخص. لقد كان أمة وحده. وحتى تنظيم الشوارع والساحات العامة في فرنسا، يحمل سمات المنهجية الديكارتية، من حيث الوضوح والدقة. ولكن من يعرف أن ديكارت كان يخشى رجال الكنيسة إلى أقصى حد؟ وأنه عاش طيلة حياته تقريبًا وهو يتحاشى سيفهم المسلط فوق رأسه؟ نقول ذلك على الرغم من كل الاحتياطات التي اتخذها، وأساليب التقية التي اتبعها، لكي ينجو من شرهم. ولهذا السبب غادر بلاده فرنسا التي كانت مليئة بالمتعصبين على طريقة المذهب الكاثوليكي، وذهب للعيش في بلد بروتستانتي أكثر حرية أو ليبرالية، هو هولندا. لكن حتى هناك، كان يغيّر منزله باستمرار، ويعيش متواريًا عن الأنظار إلى حد كبير، لكي يكتب ويفكر بحرية».
تلك هي فرنسا قبل خمسة قرون، وما إن تنفست الحرية حتى ضرب التعصب هذه البلاد الوادعة، ولكأن فرنسا التي نجت من الراديكالية الكاثوليكية تعود إلى مواجهة راديكاليات كبرى.
وتبقى فرنسا، كما عبّر هولاند نفسه، بلد التنوير والحريّة للعالم بأكمله.