يشكل الابتعاث فرصة كبرى للتعلم من الثقافات واللغات والأمثال، والدخول في تفاصيل الشعوب، وكم أنا ممتن لفرصة الدراسة في الولايات المتحدة، التي كانت مرحلة خصبة دفعتني راغماً لأن أتعلم من صيغ الحضارات وأساليب الشعوب!
كتبت عن تلك الرحلة كتاباً عزيزاً على نفسي هو:”سعوديون في أميركا” ولئن ضم في طياته حكايا وقصصا ساخرة أو دارجة، فإنه في صلبه قد تناول تجربة عميقة أصابتني بالأسئلة والتأمل. يكفي أنني لم أخدع في انطباعات تملى عليّ حول الآخرين، بل خبرتها بنفسي، كنتُ هناك فترة الصعوبات الجمّة حيث 11 سبتمبر، ذلك التاريخ الذي حوّل العالم وقسمه نصفين، كما قال بوش الابن، وبن لادن.
كأن على رأسي الطير وأنا أتابع تكريم وتوديع بعض الطلبة المبتعثين في فانكوفر على “اليوتيوب”، كانت مشاهد حميمية أن يودع الطلبة في بلد الغربة زملاء لهم أثروا في تجاربهم العلمية، بل وغرسوا قيماً كبيرة في نفوسهم، وصاروا أساتذة في الغرس.
حسناً فعل المقدّم حينما شبّه الابتعاث بالحقل الذي يمنح الزائرين فرص المساهمة بفسائل يغرسونها قبيل الرحيل، بين من يؤسس وردة، أو شجرة، وربما نخلةً تنبع بالتمر والبسر.
كلما تذكرت المآسي التي تنخر في مجتمعي العظيم أحاول أن أتزحزح عن أفكارٍ سلبية تطرحها الأخبار ذاهباً نحو أفكارٍ إيجابية، أعظمها أن بين يدي المجتمع ما يزيد على مائة ألف مبتعث حينها أشعر بالأمل والعزة أن مشروع خادم الحرمين الشريفين سيؤثر على نسيج “الثقافة” وهذا يكفي.
من ضمن قصص التفاؤل والتشاؤم؛ تتضمن رؤى السعوديين وجهتين، الأولى ترى أن في الابتعاث وسيلة للهروب من البطالة والعجز من خلال الابتعاث لأغراض التنزه على أرصفة أوروبا وأميركا وأستراليا والثانية تعتبر الابتعاث حسنةً تنتج حسنات، فإما أن يكسب المبتعث ثقافة الطابور، والالتزام بالنظام ومعرفة الحضارات والثقافات، وسيزيد عليها إن كان جاداً التعلم والشهادات والنياشين العلمية.
وأظنّ ان كلا طرفي الأمور ذميم، لأن التفاؤل الحاد مثل التشاؤم الحاد يضيّع المشاريع، لكن من الضروري أن تقف وزارة التعليم العالي موقفاً حازماً من العائدين بلا شهادات، الذين يرجعون بعد أن تصرف عليهم الدولة أمولاً طائلةً من دون أي نتيجة تذكر، بل لابد من الحزم في إيجاد نجاحات تكون أغلبيتها “متوسطة”.
نحن لا نريد نجاحاً كاملاً، ولا نريد فشلاً كاملاً، المشروع الجبار الذي بدأه الملك سيثمرينابيع وحقولا مخضرة مزدانة بالغرس والإثمار، لكن هذا يحتاج إلى تكاتف وتفاعل اجتماعي، بألا ننظر إلى المبتعث بعين المبدع أو الفاشل بل بعين “المجتهد”. فهلاّ وعينا الأمر؟!