من الصعب إحصاء الأمراض الثقافية التي تنخر في جسد الأفكار والسلوكيات والأساليب العربية!
أظنّ أن من أبرزها الانشغال بمصائر الآخرين. والسؤال الحثيث عن كنه الآخر، وعن مصيره الدنيوي والأخروي. وهو مرض انتشر في الثقافة العربية منذ القدم. وفي القرآن الكريم: “تلك أمةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يفعلون”. وفي آيةٍ أخرى: “لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتهم”. بمعنىً آخر؛ فإن السؤال عن مصير الآخر هو لهو عن الذات، والتهاء بمعايب الآخر وثقوبه، عن معايب الذات وثغراتها، وهو أساس الضياع الثقافي والفكري والأدبي.
ظلّ الصراع المذهبي بين المسلمين محدوداً بالمواقف من الآخرين. فالشيعة يعتبرون جزءاً من الأفكار الرئيسية البراءة من أشخاص والجزم بمصائرهم الأخروية. وعند أهل السنة نجد المقولة الشهيرة: “أحمد عندنا محنة”، بمعنى أن من خالفه أو نقده فهو في حالةٍ يرثى لها من الزيغ والضلال. وعلى هذا المنوال سار الكثير من المذاهب الإسلامية في تأسيسها العقدي الذي انبنى متأثراً بالتأزم السياسي، والاحتراب السجالي بين المتخاصمين آنذاك. إنها معارك طاحنة مددت الشريعة والعقائد والإيمان إلى دوائر ليست من اختصاصها، وعلى رأسها جعل الموقف من الآخرين، وتحديد مصائرهم جزءاً من الأبجديات المذهبية والعقائدية.
قبل أيام نشط في مصر جدل غريب، حول مصير أب النبي عليه الصلاة والسلام وأمه، إلى أن ردت دار الإفتاء المصرية بقولها: “وجاء في الرد أنهما ناجيان وليسا من أهل النار. واستدل العلماء على ذلك بأنهما “مِن أهل “الفَترة”، لأنهما ماتا قبل البعثة ولا تعذيب قبلها، لأن مَن مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيًا، لتأخر زمانهما وبُعدِه عن زمان آخر الأنبياء”.
قال أبو عبدالله غفر الله له: وكم أتمنى أن نطوّر آفاقنا الفكرية حتى في مسائل الدين، أن نهتم بما ينعكس عملياً وبشكلٍ إيجابي على الواقع. ليست المشكلة في البحث عن مدى صحة إيمان فلان، وهل كان فلان الفلاني منافقاً، أم مسلماً صحيح الإيمان. أجزم أن الشريعة بنصوص القرآن وصحيح السنة لا تقرّ هذا الانشغال المهووس بمصائر الآخرين، وبخاصةٍ أن حالة الهياج ضد الآخر قد تعززت، ومن النادر أن تجلس في مجلس دون أن يبغتك أحدهم بالسؤال المزمن: “وش رأيك بفلان”.
لو أن كل إنسانٍ -أيها السادة- انشغل بنفسه بدلاً من غيره، فسيتغير الكثير من السلوكيات والأساليب والأفكار. وفي القرآن: “يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم”.