إذا نظرنا إلى العواصف الاجتماعية التي تضرب عصب الدول المضطربة فسنجد أن الطائفية والثنائيات هما الداء الذي ينخر في جسد المنطقة. من العراق إلى لبنان إلى مصر- في زمن ما بعد الثورة – حيث الدماء والأشلاء، وكأننا في زمن الحشاشين أو الاستئصاليين المتعصبين!
لا أدري لماذا لم نستطع تجاوز مراحل الطائفية المقيتة، التي آلمتنا كثيراً. انتقدنا تلك النظرة الثنائية والعصبية القبائلية، وكل رؤى التميز الوهمي الذي يشعر به أي تيارٍ تجاه آخر، بينما شجّعنا الحوار، وإذا أخذنا بالاعتبار هذه الحرب الشعواء المضطرمة التي لا تلوي على شيء سوى الحكم المسبق تجاه المختلف، سنعثر على داء “الاصطفاء” كل تيارٍ يرى في رأيه الحق المطلق، ويرى في غيره الباطل المطلق، بينما لو جرى التحاور لما وصلنا إلى ما نحن عليه!
لدينا في القرآن آية عظيمة جاء فيها: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”. البغوي في تفسيره رأى أن هذه الآية تنقض حالة “التفاخر”. فحين نقتنع بالرأي الذي يعجبنا فإننا نتبناه وفق ظروفنا، وهو ما ينطبق على تبني التعصب لقبيلةٍ أو لتيارٍ سياسيّ أو فكري. إن هذا لا يعطينا التميز تجاه غيرنا. حين نرى أي أمرٍ ما على أنه خير أو شر، فإننا ننظر إليه وفق الخبرات التي لدينا، وبحسب الدوافع التي تكون مسيطرةً علينا تلك الساعة، وأكثر الناس تعجلاً ذلك الذي يجزم بالخير المحض والشر المحض، فالخير يقع بين شرين، والشر يقع بين خيرين.
إن النزعات هي التي تحسم القناعات. وما الانتماء الفكري أو الطائفي ببعيدٍ عن هذا الرأي، ولعل المراجعة والتمحيص هما علاج التسرع والبتّ، وادعاء التميز والعصمة، ووهم الاصطفاء والفرادة، وتلك المظاهر ليست سوى الأدواء التي أسست لأمراض الاصطفاف في كل أنحاء العالم!
قال أبو عبدالله غفر الله له: كلما فتحتُ فضائيةً تتحدث عن الاضطرابات تذكرتُ الثنائيات، ثم تمتمتُ بيني وبين نفسي، إلى متى هذا الاصطفاف، أليس في المجتمعات العاقلة هذه من يبين للجميع أننا نتعاطى مع الحق وفق زوايانا، هلا عذرنا كل مختلف برأيه؟!
إن الحق مثل جسد “فيل” بينما تمسك أنت بالخرطوم يمسك غيرك بالرجل وثالث باليد ورابع بالرأس، لكن الجميع في ذات اللحظة يمسك بجزء من الحق، ولا يستطيع أحد أن يطبق على جسد الفيل بقبضته! إن إدراك هذا – لعمري – هو ذروة سنام التسامح!