لست أول من يعترف، ولا آخر من يكتب، أنه مدين لمكتبة المدرسة، أو لاستشهاد أستاذ، أو لوقوف متذوق عند بيت لأبي الطيب المتنبي، يسلب الألباب، وينتزع الإعجاب، ويجعلك تقول من دون أن تعي: يا للروعة!
عشق أبي الطيب مرض يستنكف المصابون به التداوي منه، بل يطربون له ويفتخرون به، فهو عيادة متنقلة، تساعدك في تشخيص حالتك، قبل حجز موعد مع طبيب نفسي، زيارته غاية العقل، لا ضرباً من الجنون، كما يتوهم الجهلاء.
المتنبي خبير بعلل النفوس، بارع في الاختصار المبدع بلا إخلال، قائد لفتوحات المعاني من دون إقلال، إمام لصنعة الجمال بتفرد، ممارس لكل هذا منذ ما يزيد على ألف عام، وحتى هذه الساعة، دون أن يداني منزلته أحد، فكيف ينافسه؟!
رحل أبو الطيب تاركاً أجمل إرث للعرب؛ فلم يبقَ أديب، ولا شاعر، ولا كاتب، إلا سطر حروفاً فيه، وسكب المحابر في الحديث عنه، لا لبيان الإعجاب، ولا ولوغاً في حسده، بل محاولة للوصول إلى فضل اقتران اسمه باسم أشعر الشعراء، وأحكم الحكماء. كلهم فعلوا ذلك؛ إنْ بوعي، أو من دونه، وليس محبكم اليوم إلا مثلهم.
لقد سبر المتنبي أغوار النفس البشرية، فاستخرج مكنوناتها، ووقف على تناقضاتها، وتبين دوافع الخير والشر فيها، فصارت الحكمة المنسابة من شعره، والبلاغة الملازمة لأبياته، مماثلة للماء الزلال الرقراق العذب، وكأنه عاش ألف سنة، راكم فيها التجارب والعلوم، وغرف من الحكمة والدروس والمعارف!
إن ماء عظمة شعر المتنبي يروي الأرض العطشى، فتنبت الأشجار، التي تطيب لها النفوس، وتسعد بها الأفئدة، وتستطيب لمعانيها العقول.
شعره ليس بستاناً، بل غابة وارفة أنيقة، يستظل بفيئها المتأمل، ويستمتع بنعيمها السالك. إنه لا يوصد بابه في وجه أحد، ولا يرخص نفسه لمن لا يتعب في تتبع الحكم والمعاني، فهو المتعب في البدء – ككل الأشياء القيمة – وحين يعلم منك صدق الطلب، يُدني إليك غصون الثمر لتذوق حلاوة المعرفة وتتلذذ برحيق العلم، كيف لا وهو أكرم الناس بنفسه ولو اتهمه الحاقدون باسترخاص شعره، والتكسب به؟!:
ومَن جَهِلَت نَفسهُ قَدرَهُ
رَأًى غَيرُهُ مِنهُ ما لا يَرَى
هو العالم بقدره، المترحل باختياره عمن شاء، النازل برغبته عند من شاء. إنها عظمة اليقين، وقمة الإيمان بالذات، وعدم ربط السعادة بما يختاره لك الآخر، فأنت مصدر سعادتك ومكمن بؤسك، والمسافة بين الشرق والغرب صنيعة اختياراتك، وانعكاس لجمك جموح نفسك، وتهذيبك شراهة تطلبك…
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون همُ
إنه صاحب الأبيات التي لا تحتاج لإتمامها لتقف على أسرارها، وتكتشف مكامن جمالها!
أوَليس المتنبي ملك المطالع، وبديع الصور، وسيد التشبيهات؟!
«فمن نكد الدنيا»، و«كفى بك داء»، و«من صحب الدنيا طويلاً»، و«يقول لي الطبيب أكلت شيئاً»، و«لولا المشقة»، و«ما قتل الأحرار»، و«يرى الجبناء…» و«إذا كانت النفوس…».
أبو الطيب، رحمه الله، صاحب القلق الأشهر، المتعب من حساد الشمس، وضحية الغيارى والوشاة، وإمام من يدفعون ثمن تربص خصوم التميز، وأعداء النجاح، ومحاربي التألق؛ مما جعله الأعلم بخبايا النفوس المريضة.
ومن يكن ذا فمٍ مرٍ مريضٍ
يجد مراً به الماء الزلالا
إنه يريحك ممن لا يحبه، بقدرته على اصطفاء محبيه، مذ ذاك الوقت، حتى هذه الساعة؛ فلا شارحوه، ولا ناقدوه، ولا مبغضوه، ولا محبوه؛ إلا طامعون في شيء من ضوئه، وبقية من بريقه… ولام الله لائمهم.
فتن المتنبي المفكرين والأدباء والعقلاء من بعده، وأجمل بهذه الفتنة!
كان ممن عشق صحبته؛ الرائع، الطيب صالح، وفي الطيب يلتقي الأنقياء. يقول الأديب الأريب: «أي صحبة خير من صحبة أبي الطيب المتنبي، الذي شغل الناس، وملأ الدنيا. وأمسك بعنان الشعر؛ فلم يجاره أحد من قبل ومن بعد».
لقد ميز المتنبي معاييره الأخلاقية التي يضعها بصرامة، لا تقبل المساومة:
وأَظلَم أَهل الظُلمِ مَن باتَ حاسداً
لِمَن بات في نَعمائِهِ يَتَقَلبُ
يكره الحسد، ويمقت الجبن، ويستصغر الدناءة، ويحتقر ضعف الهمة. الأعجب أنه يقنن ما يجب على واهبه ومعطيه، رابطاً طيب الأعطية بطيب نفس المعطي، متغاضياً عن حجمها أو قيمتها…
إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقص
على هبة فالفضل فيمن له الشكر
صراحته، ووضوحه، خلقا من معايشته الدائمة للخطر، واقترابه من الموت؛ الذي أقر به إقرار الموقن، وتحدث عنه حديث العالم:
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا
وأعيا دواء الموت كل طبيب
أي تسلية للمصائب، أعظم من تلك؟!
صحيح أنه كان غريب الأطوار، متعدد الأحوال، كثير التحول، يمدح ليعطى، لكنه في مقابل ذلك، ينظر للمال – بحسب شعره – بزهد عزيز النفس، الذي لا يأبه للكم، بسبب انشغاله بالكيف:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر… فالذي يفعل الفقر
هل رأيتم تعريفاً أدق وأجمع وأقصر للفقر، من هذا البيت؟!
المدهش اكتشافه ألمَ التجاهل، وعدم تكافئك أخلاقياً مع عدوك… ألماً لا يدانيه ألم:
وأتعب من ناداك من لا تجيبه
وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
لا توجعه الأضرار، فهي، وإن اشتدت، أيسر من جريرة مشاهدة تكبر الصغار:
وإني رأيت الضُر أحسن منظراً
وأهون من مرأى صغير به كبرُ
معاناة المتنبي من كمال عقله، لا يجمعها مقال، ولا يوفيها كتاب، فهو صاحب الهم الذي يخترق الجسيم فيحيله نحيفاً، ويعاقر مزاج الصبي فيغزو شعره شيباً، ويلحق باليافع فيحوله هرماً. لقد رصد عيوب البشر، فقسمها أنواعاً ودركات، وعدّ أسوأها ضعف الهمة، وقلة الإتقان، مع القدرة عليه… في براغماتية مثيرة، لا يغيب عنها الجمال، ولا يشوبها التناقض:
ولست أبالي بعد إدراكي العلا
أكان تراثاً ما تناولت أو كسباً
ثم يعدّ طيب السلوك وخبثه، تعبيراً عن حقيقة المرء، وانعكاساً لطبائعه وأخلاقه. يتحدث عن النسبية، التي اكتشفها، ونظّر لها، قبل أن يقف عليها آينشتاين، بقرون، في أبيات بديعة:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه
حريصاً عليها مستهاماً بها صبا
فحب الجبان النفس أورده البقا
وحب الشجاع الحرب أورده الحربا
ويختلف الرزقان والفعل واحد
إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا
ويحك يا أبا الطيب، ما أجملك!
يتطرف صاحبنا في مواقفه أحياناً، إلا إنه من أشهر دعاة التوسط، شارحاً مذهبه:
غاية المفرط في سلمه
كغاية المفرط في حربه
الحلم عنده لا يرتبط بالعمر، فتجده في الشباب مثلما تتوقعه في المشيب، وهو المناصر للأنثى، السابق لرفض التمييز بناء على «الجندر»، والتفريق استناداً إلى الجنس:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
وعندما أصبح غريقاً، جزم حينها بأن خوف البلل جهل مركب، ولما لاحظ اختلاف المقاييس سلّم بأن «مصائب قوم عند قوم فوائد»، وتطلع للقمة فأيقن أن بلوغها مستحيل من دون التخلق بالجسارة والإقدام، فلا غرو أن يكون المؤسس الحقيقي للتنمية البشرية؛ إذ لا نجاح عنده إلا بركوب المخاطر، ولا عجب أن يكون أول داعية لإطلاق العملاق الكامن في الأعماق… وعند النهايات البديهية، علّمنا أن طعم الموت واحد، فلا يغير هذا الطعم عظمة الهدف أو حقارته، فهل يختار عاقل الحقير على العظيم حينها؟!
وبقدر الإبداع، يكثر الخصوم، فلم يجد أنكأ لجراحهم من سخريته منهم، ولو أدمنوا تتبع الزلات، فالنتيجة حتمية:
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم
ويكره الله ما تأتون والكرم
الحديث عن أبي الطيب، وعظمة اختصاراته، وكثرة تناقضاته، وجميل لفتاته، لا ينتهي، ولا يُمل، ففيه تُدرك المعاني، وتُكتشف الطبائع، وتعرف المسالك، وتفهم الحياة. لذلك فالتوقف عن صحبة المتنبي بلوى، لا يخففها إلا قوله:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
غصة الوداع تنغص حلاوة اللقاء، فلكلِّ بداية، وإن أسعدتك، نهاية… إنها سُنة الحياة، التي رفض الخبير العارف أن يتغافل عنها، فقال:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سُبلا
جميع الحقوق محفوظة 2019