يحدث أحياناً أن تحذّر من شيء ثم يحدث. كتبتُ في زاويتي هذه وفي زاويتي في “الوطن” السعودية عن خطورة التصعيد الثوري، فالحياة أكبر من الميادين. الخروج المتكرر بمطالبات تزيد مع الوقت أصبح مخيفاً. الذي جرى في مصر مؤخراً خلال الأيام الماضية وأخص بالذكر أحداث 16 و17 و18 ديسمبر، والتي بلغت أقصاها بمقتل الشيخ عماد عفت الأمين العام للإفتاء بدار الفتوى في مصر مؤشر خطير. دار الإفتاء في بيانها شددت على ضرورة عدم سفك الدماء من بين “جميع الأطراف”! وأضع هذه الجملة بين قوسين، لأنها تبين مستوى عمق الأزمة في مصر، وبأن ما هو واقع أكبر مما هو معلن، هكذا تبدو الأمور. الاشتباكات والحرائق والقتل في “اشتباكات مجلس الوزراء المصري” نتيجةً وليست مقدمة. نتيجة من نتائج عدم حسم الثورة وإكمالها وإقفال فصولها، عبر الانتخابات وتأسيس المؤسسات. وهذه ليست مسؤولية الناس فقط، بل مسؤولية المجلس العسكري الذي لم يقرأ نوايا الناس ولم يزل المخاوف. النشوة الثورية التي اجتاحت المصريين كانت عالية بطاقتها، وحين مسها الأمن بشيء من شرارة المناكفة اشتعلت الثورة المضادة كما عرف إعلامياً، وصولاً إلى أحداث ماسبيرو، ومن ثم اشتباكات مجلس الوزراء. هذه نتيجة خطيرة لأنها تجهض حلم الثورة. ووجود “أطراف” لها آراء تأخذ من الناس وقوداً، هذه علامة على تصاعد العنف في مصر، والذي لا يمكن أن يحل بسهولة. في التغطيات الإخبارية والصحفية لهذه الأزمة تكررت جملة:”أهداف الثورة”. وإذا تأملنا فيها نجدها جملة فضفاضة، كان الهدف الأولي للثورة:”إسقاط الرئيس” رحل الرئيس وجُرّ بالسرير إلى المحكمة، هل من أهدافٍ تالية؟! من الواضح أن هذه الجملة تكرر من قبل محللين مثل عمرو حمزاوي، أو ياسر طنطاوي المحلل الآخر والذي قال:” أهم الأسباب لهذه الأحداث هو تراخي المجلس العسكري في التحرك بشكل جاد لتحقيق أهداف الثورة، فطوال الفترة الماضية كان هناك تأخير ملحوظ في كل ما من شأنه الإسراع بعملية الانتقال الديمقراطي”! لا يمكن للمجلس العسكري أن يحل كل شيء بيومٍ وليلة، وهذه ليس خطأه، هناك غليان شعبي لم يقف عبر إحياء “الجُمع” كل أسبوع، مما يعطل إمكانية البدء بالحياة الجديدة. كل شيء يأتي بالتدريج حتى الانتقال الديمقراطي. وجد الناس في الميادين فرصة للتعبير عن أي مطلب مهما صغر، وهذا يجهض الحياة العامة. وتحقيق أهداف الثورة لا يأتي فقط من المجلس العسكري بل من كل المصريين. تحقيق أهداف الثورة لا يأتي باستخدام العنف، أو الدخول في مناوشات أو التحرش بمباني السفارات أو التصعيد الطائفي، هذه الأمراض الاجتماعية لابد أن تخف حتى تبدأ عملية الانتقال الديمقراطي، فهي أصعب مما نتخيل، الديمقراطية سهل أن يتحدث الناس عن تطبيقها في مصر، لكن من الصعب عليهم الإطلاع على عوائقها الكثيرة والواضحة. أول طرق تحقيق أهداف الثورة أن يدركوا أن السلم هو الأساس، وأن لا تستمر “شيطنة” الشخصيات، والتشكيك بكل أحد، والضرب ضد هذا الطرف أو ذاك. فالثورة لا تستوجب النرجسية، حين سقط مبارك لوّح بعض الأطراف بإمكانية الاستغناء عن الخليج واستبداله بإيران! هذه النرجسية المفرطة هي التي ستجهض الثورة، لأن كل فرد يظن نفسه “غيفارا” فلا يستطيع أن يفتح دكانه أو متجره. المصريون أمام مسؤولية تاريخية، وعلى القادة ورؤساء الأحزاب عدم الاتجاه للتصعيد، هذه النبرات والممارسات لا تخدم أحداً، والإنسان أهم من الحزب. لا تجهضوا الإنسان باسم الانتصار للثورة، هذه هي النتائج وليست المقدمات، كانت المقدمات باستمرار الثوار في ارتياد الميادين، كان الأولى البدء بورشة الحياة اليومية وإغلاق ملف الثورة وفتح المتاجر والدكاكين.
جميع الحقوق محفوظة 2019