من الممكن دراسة انعكاس الإعلام على المجتمع وفق النظريات الاجتماعية. لكن من غير الممكن أن نخضع البرامج الفضائية لمعايير التعاملات الاجتماعية. أضرب على ذلك مثلاً بحملات بعض الباحثين الاجتماعيين ضد المذيعين تحت ذريعة مقاطعة المذيع للضيف، مع أن هذا تعميم فيه جناية كبيرة، وعدم فهم لطبيعة عمل المذيع. في ندوة تحت عنوان: “لا تقاطعني”؛ قصر الوقت لم يكن في صالح تعدد محاور مشاركتي، وزاد الطين بلّة انحراف مسار الندوة من الجانب الإعلامي التلفزيوني إلى جانب التنابز بين الجمهور المصري والجزائري في تلك الجلسة. وهي أحداث مؤسفة بكل تأكيد. تمنيتُ أن أقول في تلك الجلسة إن البرنامج ليس مجلساً عاماً يشترط فيه الإصغاء ورفع اليد قبل الحديث. البرنامج خاضع لمعايير إعلامية، والمقاطعة هي وظيفة المذيع، لكن يجب أن تكون مقاطعة مدروسة بعناية. لا أظن أن كلمة المؤلف الألماني بولنوف حينما قال: “إن الشرط الأول للحوار هو القدرة على الإصغاء إلى الآخر” ستكون مناسبة للمذيع. لهذا فإن الإصغاء يحوّل المذيع إلى شبه آلة من آلات البرنامج داخل الاستديو. “أريك فروم” في تحليله النفسي لأنواع الإصغاء كان يتعامل مع الإنسان في المجتمع لا الإنسان في الإعلام. لو خضع المذيع لشروط الإصغاء الاجتماعي داخل البرنامج لطرد من القناة لأنه حينئذٍ يتحول إلى جزء جامد كالكرسي والطاولة. صحيح أن الإصغاء مفقود في حياتنا اليومية والاجتماعية. تجد الكل يقاطع الكل: وفي هذا تحضرني كلمة جميلة لـ”دايل كارنيجي” يقول فيها: “(إذا كنت تريد الناس أن ينفضّوا من حولك، وأن يسخروا منك، فهاك الوصفة: لا تعط أحداً فرصة للحديث، تكلم دون انقطاع، وإذا خطرت لك فكرة بينما غيرك يتحدث فلا تنتظر حتى يتم حديثه، فهو ليس ذكياً مثلك، فلماذا تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه السخيف! اقتحم عليه الحديث واعترض في منتصف حديثه”. الحس الذي يحتاج إلى تخمين سريع لا يتجاوز أجزاء من الثانية. أن ترى أن سؤالاً سيكون ممتازاً لو طرحته الآن خاصةً وأن أفكار الضيف قد اتضحت خلال طرحه الماضي. بعض الضيوف يطرح إجابة واحدة مع تنويع في الأسلوب فأضطر إلى إدراج أسئلة أخرى في قضايا أخرى. لم أفاجأ حينما علمتُ أن “لاري كينج” يحسب عدد كلماته في اليوم العادي وفي البرنامج. لهذا تحضرني كلمة له يقول فيها: “إنه ينطق أكثر من 18 ألف كلمة في المتوسط باليوم الواحد”. أظنّ أننا نحن العرب نلفظ أضعافها في المداخلة التلفزيونية الواحدة. يفتخر بعض المذيعين بحالة “الفضح” أن يكون فضّاحاً في أسئلته، على طريقة دعوى تقمّص شخصية “محامي الشيطان”. المذيع يجب أن يقوم بدوره كمذيع. والحوارات الإعلامية هي حالة عصف ذهني مشترك للبحث في جيوب التفكير للضيف، وفي أعمق أعماق طرحه وكتابته. لهذا أظنّ أن موضة محامي الشيطان ليست جيدة دائماً. يرى الفيلسوف الإيطالي “أمبرتو إيكو” أن عالم التصفّح المبعثر الذي يجسّده الإنترنت ربما يشكّل تهديداً حقيقياً للقنوات الفضائية. “اليوتيوب” مثلاً صار فضاء بحدّ ذاته، أصبح مستودعاً أنيقاً لمختلف البرامج والحوارات. أصبح بإمكان أيّ شخصٍ كان، أن يفتتح قناته الخاصة على اليوتيوب، لهذا أظنّ أننا بحاجة إلى أن نجدد في معايير نجاح البرنامج الحواري القديمة. أن نضع كل معادلاتنا القديمة في حيّز البحث والفحص.
جميع الحقوق محفوظة 2019