يعتبر اسم “طه حسين” أشهر الأسماء النهضوية الفكرية في تاريخ الفكر العربي. ذلك أن دوره دور تاريخي، صحيح أن تلامذته قد فاقوه في الحرفية الفكرية، حيث أنتج طلابه الكثير من المشاريع الفكرية الأخاذة، وذلك لما منحه إياهم طه حسين من إلهام تجذر في كتاباتهم، لكننا لا ننسى أن طه حسين كان كفيفاً، فلم تكن الكتابة بالنسبة له يسيرة. كان يملي إملاءً، لهذا جعل كتاباته الفكرية ضمن النسق الأدبي الذي يقدمه. كانت بداية الدعوة إلى “الشك” في الثقافة من كتابه الشهير: “في الشعر الجاهلي”، والذي استخدم فيه منهج “ديكارت” في الشك، وهو أول استخدام تطبيقي لمنهج “ديكارت” في التاريخ الفكري العربي الحديث كما يذكر المؤرخون لتلك المرحلة. بين يدي كتاب ممتع اسمه: “طه حسين-الكتابات الأولى” طبع سنة:2002، وهو عبارة عن مقالات طه حسين الأولى والمبكرة. عرفت من خلال قراءتي لها أن قرناً بأكمله قد مر على طرح هذه الرؤى النهضوية الكبيرة، كتبها ابتداء من 1909 ونحن الآن في 2010. تناول في كتاباته الأولى الكثير من المصائب التي تعاني منها الثقافة العربية إلى اليوم. بدأ كتاباته بسلسلة: “فلسفة الشباب”، التي تضمنت مقالات حول: الأزهر، التعليم الديني، الجامعة والنهضة، الآداب العربية في الجامعة، النقد حقيقته وأثره في الأمم، هل تستردّ اللغة مجدها القديم. وكانت الكتابات الأولى خريطة لما سيدشنه من مشروعات علمية كبيرة، كانت علامة فارقة في تاريخ الثقافة العربية. شيء كالحلم أن يمر قرن على طرح هذه الرؤى من دون أن تتحول إلى واقع معاش، يقول في مقالة مبكرة عن التعليم الديني في الأزهر سارداً ملاحظاته على الأزهر ومنها:”فساد اللغة العلمية وإغراقها في الغموض حتى تخرج من أن تكون لغة خطاب ومحاورة فضلاً عن أن تكون لسان تعلم وتعليم، فإن معاني العلم أصعب من معاني المحادثة. ولغة الأزهر الشريف من الصعوبة بمنزلة تصرف الطالب عن المعنى إلى اللفظ فينفق أوقات الدرس في البحث عن لفظ متقدم، حقه أن يتأخر، ولفظ متأخر حقه أن يتقدم، وعن ضمير ضاع مرجعه، واسم إشارة ساء موقعه، وعن مضاف قام مقام المضاف إليه، ووصف وضع موضع الموصوف، من غير أن يكون لذلك مسوغ من أسرار البلاغة، ومستجاز من نكت البيان، فإذا كان الكلام بهذه المنزلة من الغموض والركاكة، وفي هذه المكانة من التعقيد والاستغلاق، كان خليقاً بإحدى منزلتين، فإما أن يصادف عقولاً مستقيمة، وأحلاماً راجحة، وقوماً أحرص على العلم، وأشغف بالحكمة، فيُطّرح أطّراح الخليع، وينبذ نبذ الموبوء، وإما أن يصادف عقولاً فارغة، وهمما فاترة … فيتهافتون عليه تهافت القطا الظماء على ورد الماء”. لكأن طه حسين سبق زمنه بالتحذير من المدّ الديني اللفظي، وخطورة طغيانه على المد الديني المعنوي. يقرأ منذ قرن كامل كيف أن الانحباس وراء جدار اللفظ، سيحول بيننا وبين فضاء المعنى، الذي يقدمه النص الديني. ولئن كان يقدم نقده سخياً باتجاه التعليم الديني في الأزهر غير أن الملاحظات الكثيرة والغزيرة التي ذكرها عميد الأدب العربي يمكن أن تطّرد على أغلبية مؤسسات التعليم الديني في العالم العربي والإسلامي. إن طرح طه حسين النهضوي، يمكن أن يكون خريطة طريق، لإبصار سؤال النهضة، والتساؤل عن مصيره، وماذا حل به؟ هل نحن في مكاننا؟ أم نتقهقر؟ أم أننا نتضاءل وننقرض كما يقول الشاعر السوري “أدونيس”؟ إن نصوصاً بهذا الجلاء والصفاء لمفكر بحجم طه حسين لجديرة بطرح سؤال كبير جداً: لماذا لم نر هذه الرؤى على أرض الواقع خلال قرن كامل مضى؟!
جميع الحقوق محفوظة 2019