عالمنا العربي مُسيّس حتى النخاع…
في العوالم الأخرى، كلما اتجهت إلى القرى، كلما كانت تفاصيل الناس اليومية هي القضية الأولى، لكننا في العالم العربي، نزداد سياسة في القرى والأطراف حيث يجب ألا تكون ثمة سياسة.
مشهد المزارع أو الفلاح الذي يجد راحته ومتعته في الجلوس على كرسي خشبي رث، وقد انتصبت يده حاملة مذياعاً عتيقاً، بالكاد يعمل، وتظهر عبر موجات أثيره أصوات مذيعي “بي بي سي العربي”، وماجد سرحان رحمه الله يصدح مجلجلاً “هنا لندن”… مشهد تقليدي يتكرر في العراق، والسعودية، ومصر، وتونس، والمغرب، مثالاً لا حصراً.
كانت أخبار السياسة تسابق رغيف الخبز إلى أفواه أجيال متعاقبة منا…
فلماذا، اختصصنا بهذا الأمر دون غيرنا من شعوب الأرض، أو فوق غيرنا من بقية خلق الله لنكون أكثر دقة في التوصيف؟
أصدقكم القول أنني لا أدري.
لو تصورنا أن المأساة السياسية التي تمر بها شعوبنا العربية، هي السبب، ففي كل وادٍ بنو عمرو كما تقول العرب، أي أن أصقاع المعمورة وأرجاء الفسيحة تعج بالقضايا المصيرية بالنسبة لأصحابها، والمآسي السياسية تحيط بشعوب الأرض من كل جانب، إحاطة السوار بالمعصم!
ما يهمني هنا، هو الأثر السلبي لهذا التسييس الذي يقع علينا.
كلنا تحولنا إلى محللين سياسيين، مع أننا لا نفقه في السياسة إلا نظرية المؤامرة، ولا نعرف من التسييس إلا إيغار صدورنا على الواقع الأليم، ونظرتنا السلبية للأشياء، وإيماننا بضرورة التغيير، وإن تساوينا في ضرورة التغيير مع مشجعي المدرجات في ملاعب كرة القدم، الذين يعتقدون أن الخروج من الهزيمة التي حاقت بفريقهم لا يمكن أن يكون إلا بالتغيير.
تغيير من، ليحل بديلاً عن من؟ لا ندري!
المهم أن يرفع مساعد الحكم راية التغيير ويخرج أحد ويدخل آخر، ولو كانت دكة الاحتياط مكتظة بالكساحى.
إذن، حاقت بنا السياسة أسوأ المكر، فتخلينا عن الانشغال بأنفسنا كما يجب.
– كيف؟
انشغلنا بالسياسة عن تطوير ذواتنا، وتنمية مهاراتنا، وتعزيز قيمة العمل في أوساطنا، فحولنا مجالس الشعب الى عموم الشعب، ومجالس العموم إلى كل واحد من عموم الأمة.
لا أدافع هنا عن واقعنا السياسي، ولا أبرئ الحكومات والنخب العربية، من هذه المصيبة، فقد كانت النخب السياسية فرحة جذلة بالجماهير التي تخرج بدافع ذاتي، أو بدافع حكومي، لتسير في مسيرات لا تعرف أثرها، ولا تعي شعاراتها، وآحاد المتجمهرين في هذه المسيرات إمعة سمع الناس يقولون شيئاً فقاله.
انشغلنا كثيراً بالسياسة عن الاقتصاد وبالشعارات عن التنمية، والإنسان ليس حيواناً سياسياً كما روّج المسيسون الذين يريدون أن يثبتوا صحة مذاهبهم السياسية الفارغة بأصوات الجياع والمساكين، بل الإنسان مخلوق اقتصادي مبدع. وإنما وجدت السياسة في العالم كله، لتؤمن إيصال لقمة الخبز إلى الأفواه، فإذا حرمت الأفواه الطعام، فقد تحولت من غايتها إلى عكسها.
لقد جرّبت شعوب أوروبا السياسة كثيراً، ولكنها في النهاية أدركت أن الاقتصاد هو أقوى الروابط، فلم تجتمع دول الاتحاد الأوروبي برابط كالرابط الاقتصادي.
ولا زالت الدول العربية تخوض في أوحال السياسة، فلا هي أوجدت رابطة قوية بينها، ولا هي أطعمت شعوبها ما يليق بها من خبز… إلا من رحم ربي… وقليلٌ ما هم…
جميع الحقوق محفوظة 2019