أصعب موقف يمكن أن يمر فيه مثلي، هو أن يسأله أحدٌ النصيحة! أقول ذلك حيناً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وأحياناً أخرى لأني رجل لا أحب النصائح، وقد استقر لدي أن النفوس جبلت على النفور من النصح وعدم قبول التوجيه المباشر، ولا أحب أن كون نافراً، فكيف بي منفراً!
كان والدي – كما كل الآباء- يريد مني أن أستفيد من تجربته، وأن اختزلها، وقد كان بعض كلامه ثقيلاً عليّ، ولم يشتد إيماني به، ولا استحضرته كما أفعل بعد أن أجرب بنفسي فأرى ما يقوله صواباً، فيحضر قوله أمام ناظري، وأؤمن به كما لم أفعل يوم طرق الحديث سمعي للمرة الأولى.
بالأمس القريب بعثت إليّ طالبة إعلام تطلب النصيحة. واستعذبت للحظات ممارسة دور الأستاذ، وإن لم أكن له أهلاً، ثم لجمت نفسي بالعودة إلى ما عهدته فيّ. وزنت رفضي للنصائح بتجشمها عناء المراسلة، فما أنقذني أحد مثل أستاذنا سمير عطا الله. وأقول إنه لا شيء يطربني كمقالات سمير عطا الله. هذا الرجل يملك قلماً أكثر رشاقة من عارضات الأزياء، وينتقل بين الجمل كما راقصات الباليه، واستمتع بما يكتب كما تفعل الموسيقى الهادئة بالمنهك بعد يوم من الضنك والتعب. كتب سمير عطا الله في مقاله اليومي العام الماضي في “الشرق الأوسط” مقالاً وجهه إلى ابنه نصري المتخرج للتو، العائد من جامعته اللندنية بتفوق، فاختار للمقال عنواناً ذكياً وسمه بـ”خلاصات… لا نصائح”، لأن سمير يعلم أن النصح ثقيل على النفوس، فمهر اسمه بقطعة أدبية تبقى عقوداً من الزمن.
كتب سمير بقلمه الذي يتسنم ذروة الصدارة في الفن والإتقان والصنعة بين الأقلام العربية حكماً تشبه نوادر وصايا الآباء لأبنائهم. أفاض عطا الله في وصف النجاح والفشل في أجمل ما تكون العبارة، وأسهل ما تكون الكلمة “قارب الناجح لأنه يحفزك على دخول السباق. وتجنب الفاشل لأنه يمضي العمر وهو يحاول أن يشدك من رجليك. الناجحون في الحياة استمرار والفاشلون إعاقة”. هذه كلمات لا يمكن إلا أن تكون ملامسة لفؤادك، حاضرة في عقلك، وبخاصة وهو دعا ابنه إلى الحرص “على توافق القلب والعقل معاً… ولا تجعلهما في تنازع”.
ولم يكن الأب فظاً وهو يتحدث عن المتعة والفرح، وفي مقابلة استغلال الوقت، فقال:”الفرح حياة لكن هدر الوقت ندم”، ثم عاد ليصف الوقت بوصف عظيم “أقل ما نملك في الدنيا هو الوقت. إنه عطية صغيرة يتقاسمها ملايين البشر. احرص على حصتك منه”. سمير عطا الله كبير بقلمه وعمره وتاريخه، لكنه هنا يعود ليكبر أكثر، لأنه لا يرضى لنفسه أن يكون صغيراً، “لا تخاصم، لأن الخصومة للصغار، ولا تعادِ لأن العداء للحاسدين، ولا تتوقف عند رواسب الأمس لئلا تتحول إلى وحول”. ثم يقنن للتعددية والإنسانية بجمال واحتراف:”ضع نفسك دائماً مكان الآخر. فإذا كان شريراً احتميت منه باكراً. وإذا كان خيِّراً تقرَّبت منه دائماً. واحذر المتغطرسين فإنهم يتعثرون دوماً بأذيالهم ويعرقلون طريقك”.
شكراً أبا نصري فقد أمتعتنا مرات، وأمتعتني بخاصة في حديثك عن مهنتنا عندما قلت لنصري أدام الله عليه وعلى أخته التوفيق “اجتهد. اقرأ. واكتب. وربما قال لك أب آخر: تجنب مهنتي. إياك والكتابة. لكنني أتمنى لك وأتمنى عليك أن تكتب. وأن تقرأ. وأن تجتهد. ليس هناك مهنة أجمل من هذه المهنة سوى الموسيقى. أو التجوال في البراري. ولكن خذ خبرتي: إنها أجمل المهن. برغم وعورة الطريق. درب جميل حتى النهاية برغم قباحات الصدف”.
جميع الحقوق محفوظة 2019