أعرف أن علاج الملل، هو الفضول، لكن – مع الأسف – لم أجد طبيباً يتقن كتابة وصفة لعلاج الفضول!
أقول هذا، وأنا موقن بأن عائلتي الصغيرة، تنتقم من غيابي وانشغالي الذي لا ينتهي، وهذا من فضل الله عليَّ، بطريقة جديدة لم أعتدها من قبل!
نعم… إنهم ينتقمون منِّي بالطريقة التي لم أتوقعها، إنهم يزرعون الكتب في طريقي من أجل ساعة المكتبة الليلية، ويتركون رسائل مكتوبة بخط اليد، لأنهم يعرفون أني مفتون بالرسائل – أخص منها – ما خالط اليد والعطر، ورُسِم على بياض الورق بمحبة خالصة، يصعب تحقيقها بالرسائل الإلكترونية، مع كامل الاحترام للسيدة التقنية!
قبل يومين، كنت أتغنَّى بأبيات لأبي القاسم الشابي، ولا أعرف سبباً واضحاً لهطوله عليَّ ليلتها، كنت أنشد نشيد الحياة، سعيداً موقناً بأني سأنتهي من كتاب بدأته قبل أيام، ثم انشغلت عنه بأخيه، ثم بعمل وسفر، وكنت عاهدت نفسي، أن أقاومَ الفضول، وأتجنب الكتب التي يهديها الأصحاب والفضلاء والناشرون، قبل أن أتم ما بدأته، فجأة ودون ميعاد، وأنا أترنم بالشابّي:
وشفَّ الدجى عن جمال عميقٍ
يشب الخيـالَ ويذكي الفكرْ
ومُدَّ عَلَى الْكَوْنِ سِحْرٌ غَرِيبٌ
يُصَـرِّفُهُ سَـاحِـرٌ مُقْـتَدِرْ
وَضَاءَتْ شُمُوعُ النُّجُومِ الوِضَاء
وَضَاعَ البَخُورُ، بَخُورُ الزَّهَر
ولم أكمل بخور الزهر، حتى رأيت من بعيد، كتاباً مقلوباً على بطنه، لم يكمله من بدأه، تأدباً وفضولاً، اتجهت لأعيدَ الكتاب إلى رف قريب. وجدت أسفل الغلاف ما كتب بثقة مفرطة «الكتاب الذي أسعد مليون قارئ»، ضحكت من كل قلبي، وقلت: ما أصعب التنافس في سوق النشر هذه الأيام! ثم حدثت نفسي: ما ضرَّك لو زدت المليون سعيدٍ واحداً؟!
العنوان موغل في المباشرة: «حياتك الثانية تبدأ حين تدرك أن لديك حياة واحدة»، توقعت أن يكون الكتاب علاجاً لمرحلة عمرية يصعب حصرها. ظننته عن الاكتئاب، أو كتاباً من كتب التنمية البشرية… لا يهم، المهم أن الناشر مقتنع، أنَّ الكتاب أسعد فعلياً مليون قارئ، شخصياً أؤمن بأن قراءة الكتب تبعث على الشك والتساؤل والبحث عن معنى شارد، ربما كانت مكتبتي الداخلية المليئة بكتب التراث وإصدارات مراكز الدراسات هي السبب، ربما كنت أنا القارئ المنتظر.
كدت أحكم على الكتاب من غلافه، فهي حياة واحدة قطعاً، ولا أدري – وغيري كثيرون – متى تبدأ الحياة الثانية، ربما كنت مشغولاً في حياة سريعة، فلم أنتبه أني انتقلت من حياة أولى لحياة ثانية، لعلي الآن في الحياة الأولى، أو الخامسة، لست أدري! بعد قليل، سأدرك ذلك، وأزيد على حياتي الحالية – أياً كان رقمها – حياة جديدة.
راودتني نفسي الأمارة بالسوء، بإعادة الكتاب إلى الرف الذي ينتظر العنوان المباشر، وقلت لنفسي كما قال أموس برونسون ألكوت (29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1799 – 4 مارس 1888) – صاحب المدرسة المتعالية في الفلسفة -: «كلما قللت من الروتين، نعمت بمزيد من الحياة»، وقررت فعلياً أن أذهب إلى روتيني، وأكمل الطريق لمكتبتي، وكتابي المفتوح، قبل أن أرى كتاباً لباولو كاويليو، مبتسماً على الرف ذاته، فتذكرت مقولته الخطيرة: «إذا كنت تعتقد أن المغامرة خطرة، فجرب الروتين القاتل».
تبدأ رافاييل جيوردانو، الرسامة الفرنسية ومدربة التنمية البشرية، روايتها قبل أن يفتح القارئ الكتاب، فهي ترسل كاميل، بطلة العمل، لتتخلص من روتينها اليومي، وتندهش من الحياة، باحثة عن المعنى؛ الفرح والإثارة في الحياة الثانية المدركة.
والحقيقة أن الملل، أصبح مُفجعاً قريباً وملاحظاً، أينما ذهبت، لأن الغالبية، كما يقولون، يسيرون مرتدين هذا الشعور، ولكن في الضفة الأخرى مقتنعون كثر، جُلهم أصحاب المكتبات والقراءات المطولة، بأن الملل ليس في العالم، بل في الطريقة التي نرى بها العالم، وليس المجال مجال استعراض وجهات النظر، التي تحاول فهم الملل، فالهدف تقليص عدد المكتئبين، المصابين بداء الروتين القاتل.
السؤال المحوري، عند كاميليا، البطلة، هو: كيف للإنسان أن يحكم أن حياته، التي يحياها الآن، حياة حقيقية، تستحق كل هذا العناء؟
متى تأتي اللحظة، التي تقرر فيها قطع تذكرة باتجاه حياة جديدة، لحظة تحمل فيها حقائبك، وشنطة ظهرك، باتجاه قطار جديد، هارباً من الروتين، والأيام المتشابهة، أناس من فرط مللهم لا تجد رداً عليهم، لأنك مثلهم، تماماً، مصاب بداء الملل، ولُبُّهُ داءُ الروتين القاتل… تسميه تسمية استلطفتها جداً، كما أنقلها في هذا الحوار بين كاميليا، ومدربها الروحي كلود:
– أعاني من ماذا؟
– داء الروتين الحادّ. هذا أحد أمراض الروح، والذي بات يتفشّى، على نحوٍ متزايد بين الناس في العالم. أعراضه تكاد تكون دائماً هي نفسها: انخفاض في درجة الحافز، نوبات دورية من الكآبة، فقدان المعالم والحواس، إيجاد صعوبة في الشعور بالسعادة رغم وفرة الخيرات المادّية، خيبات أمل وشعور بالإرهاق والتعب…
– ولكن… كيف تعرف كلّ هذا؟
– أنا روتينولوجي.
– روتينو ماذا؟».
لم يقاطعني أحد من الأهل وأنا متمدد في ممر بالبيت، أقرأ عنواناً لا أستطيع حمله في المطارات، مرت ساعة ونصف الساعة، وأنا أحاول أن أخرج ببعض الأفكار، لم يمر بي أحد، فأيقنت أني قد وقعت في الفخ، وأن أحدهم رمى لي الطُعم، ليسرق ليلتي من المكتبة التي تنتظرني، وأنا أعيش محاولة إضافة واحد لمليون من السعداء.
يصنف العمل في رأيي المتواضع، تحت خانة التنمية البشرية، لكن بطرح روائي سلس، والرسامة الفرنسية، تتملص بأناقة، من أي تهمة، وأي تصنيف، وهي تقول: «لا أريد أن أطلق أحكاماً ولا أن أَسقط في فخّ المبالغة. ما أسعى إليه هو أن أمنح المفاتيح لقُرّائي لكي يصبحوا أفضل حالاً».
طربت لمفهوم «البياض العظيم»، وهو شائع في أغلب الثقافات، لكن التسمية أعطت طعماً جديداً للفكرة، فالترتيب المستمر وتنظيف داخل الإنسان، ومحيطه الخارجي، ضروري بشكل مستمر، كي لا نفقد الدهشة، ونسقط في فخ الملل.
ومن المتوقع من كاتبة، تنتمي للتنمية البشرية، أن تنصح بالتنفس العميق مرتين أو ثلاثاً في اليوم، ونسترخي ونتمدد هاربين إلى الخيال، عدو الروتين، وعلاج الملل.
لا تلقِ بالاً لآراء الآخرين، ابحث شغفك، واتبع سعادتك… لعل الكاتبة لم تعلم بأن ذلك صعب في العالم العربي، حيث الجميع يراقب الجميع، لكني أعذرها فغالباً لم تكن تتوقع صدور ترجمة عربية للعمل، ترجمة لطيفة وقعت في يد قارئٍ، حرمه كتابها من العودة لمرافقة أبي حيان وأبي الطيب ومسامرة الجاحظ، ومنادمة الأصفهاني!
قبل أن أعيد الكتاب اللطيف للرف، وقعتْ عيني على ساعة الحائط، فإذا بها الثالثة فجراً، والجميع نيام، دسست ملخص الأفكار التي خرجت بها من الرواية بين دفتي الكتاب، من دون أن أصف نفسي بالسعيد الواحد بعد المليون. اتجهت لباب مكتبي لأغلقه، وأنام وأنا أردِّد بيت أبي القاسم الشابي، بمعنًى جديد، وشعور مختلف:
وَضَاءَتْ شُمُوعُ النُّجُومِ الوِضَاء
وَضَاعَ البَخُورُ، بَخُورُ الزَّهَر