للمرة الخامسة والأربعين تحتفل الإمارات بيوم الاتحاد، هذا الكيان المعجزة بحسب الصحافة الغربية حينها، والتي لم تصدّق هذا الاتفاق بين الإمارات السبع. حكمة الآباء المؤسسين، وعلى رأسهم الشيخ زايد بن سلطان، عبّدت الطريق أمام اتحادٍ تستثمر به الأجيال على كل المستويات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
لم يكن الاتحاد أيديولوجياً كما حدث في الوحدة السورية المصرية، ولا ضمن شخصٍ كاريزماتي خطابيّ أوحد كما في دعوات الوحدة القومية بعهد جمال عبدالناصر، بل وحدة مدنية مصلحية واقعية.
هذا هو الفرق، عمل شيوخ الإمارات على دمج المصير بين الإمارات، التي فتح أهلها عيونهم بمفازةٍ شحيحة على شاطئ الخليج، وأرادت أن تضمن المستقبل من أطماع الغزاة، فقد خبروا تاريخياً البريطانيين والبرتغاليين والأتراك، وأرادوا مصيراً مضموناً، تفجّرت الثروة وتقاسم الناس قطاف ثمارها، عاد الاتحاد بمردودٍ غنيّ على الجميع، وباتت الإمارات من أغنى دول العالم، والفرد من الإماراتيين مرحب به في الدول، ولا حاجة له لتأشيراتٍ معقّدة للدخول إلى البلدان الأوروبية وسواها.
رزف الشيوخ والشعب ليوم الاتحاد، منشدين قصائد الاستقلال، ومغنّين ملاحم التماسك. نتذكّر أقاويل العروبيين، حين رحل الشيخ زايد قيل بأن الاتحاد لن يصمد، وستدب الخلافات، لكن أثبت الإماراتيون أن الكلام المذكور محض غبار، والسبب يعود إلى بنية التأسيس الصلبة المتينة.
ثمة فرق بين اتحاد يبنى بالكلام الأيديولوجي، والأطروحات النظرية، ومثل اليسار والاشتراكية والتقدم والوحدوية، وبين الاتحاد الإماراتي الذي بني على أسس اقتصادية واستراتيجيات تنموية واكتشافات نفطية، هذا الاتحاد يدوم، لأنه ليس اتحاد خطب رنانة، وأحلام فارغة من المضمون، فقيرة من الرؤية الاقتصادية، أضف إلى ذلك بعد الانفتاح بالاتحاد، لأن مناخه مستفاد من التطور الغربي الحضاري بفضائه الحر والحيوي والحضاري، وليس من أمثلة ماوتسي تونغ أو كارل ماركس أو لينين، بل من حضارة تؤمن بالاقتصاد الحر، والفردانية الذاتية، والاستقلالية للشخصية.
لو عدنا إلى دراسة ريما الصبان بعنوان: «الحداثة والتطور وتأثيرهما في المجتمعات الخليجية»، سنرى التأثير الإيجابي للحداثة على المجتمع الإماراتي والمجتمعات الخليجية عموماً، إذ تجددت الهوية، ونفع الاحتكاك بالآخر، وتأثير الابتعاث، وتطور مستوى جودة التعليم، والفضاء الفكري الحر بالنقاش والحوار، والانخراط الشبابي بأدوات الإعلام والوسائط، كل ذلك يبيّن مستوى التطور الفعلي للإنسان الخليجي الذي كان مع الحضارة الأنجح فكراً وعلماً واستنارةً، وهي حضارة ديكارت وكانط وهيغل وروسو، لا حضارة أنغلز، وستالين، وتونغ.
لو تخيّلنا أن زعماءنا وملوكنا كانوا أوائل السبعينات منخرطين مع الخطابات الرجعية لليسار ونماذج القوميّة المستحيلة، وأساطير القذافي، وخطب عبدالناصر، وجنون صدام حسين، لكانت دول الخليج بوضعٍ يرثى له! بدليل وجود دول غنيّة مثل العراق وليبيا تسبح بمحيطات من البترول، لكن مآلات الأيديولوجيا السياسية قذفت به في أتون الصراع الدموي الكارثي.
خذ مثلاً سوريا أيضاً، لديها بعض النفط لكنها غنيّة بالثروات الطبيعية، وكذلك لبنان، ولنتذكر كيف كان اليمن في العهد الملكي!
نتذكر تجارب الأمم لنتعظ، لنعرف قيمة ما بين أيدينا من منجز، هو الآن بيد خليفة، ومحمد بن راشد، ومحمد بن زايد، وحكام الإمارات المحافظين على بنية الاتحاد الذائدين عنه، والمحاربين لكل يدٍ تمتدّ إلى وحدته، أو تنخر في جسده أو إمارةٍ من إماراته.
تجربة ناجحة خارقة للعادة، شارفت على تتمة النصف قرن، لتدرّس الأجيال أن كلمات الرجال والآباء المؤسسين كانت كالسيف، وكالسهم مستقيمة لا تغيرها عواتي التحولات، ولا مؤامرات المتآمرين.
كل عام والإمارات واتحادها نموذج يحتذى، تأسس الاتحاد في وقتٍ كانت الدول النهرية العربية في قمة نموّها وتفوقها، لكن تبدلت الأحوال، وأصبحت الإمارات موئلاً للعمل من مواطني تلك الدول، وفي التاريخ ما هو عظة وعبرة.