الحياة المدنية تبنى على الحاجات الاجتماعية، لكن البعض يريد أن يبني كل حاجةٍ مدنية على أساس الشك والاضطراب بين الإباحة والتحريم!
الأصل في الأشياء الإباحة، والنبي عليه السلام قال للصحابة: “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”، فالدنيا مفتوحة ونحن نعيش مدنياً على أصل الإباحة وبراءتها الأولى، غير أن البعض يحاول أن يبني الحياة كلها على أساس التحريم، بحيث يتم طرح الاستفتاءات والأسئلة حول أي شيء مدني، من فتح سوبر ماركت، إلى بيع الصحف، إلى الشركات التي تنتج المشروبات والمأكولات، ومالكيها وهويات مالكيها وأديانهم! كل هذا الشك بالحياة، وزحزحة الدنيا وإباحتها الأصلية، تبين لنا أننا بحاجة إلى فقه في الحياة. وأظنّ أن فقه الحياة لا يعني ارتباطه بالفقه بالمعنى المنهجي، وإنما بأصل المعنى للفقه بمعنى الفهم، بل إن المعنى الشرعي قائم على أن الفقيه ليس من يحفظ الأحكام، بل من يفهم التشريع، وضروراته، وعلله.
من المهم أن تكون الحياة مفهومةً لا بوصفها بعبعاً أو شيئاً مخيفاً، بل على اعتبارها حياة جميلة أساسها البياض الذي نمنحه إياها، ومن فقه الحياة أن نتعامل معها من دون أن نشك بها، أو أن نتحرج من البناء فيها والتعامل معها، يسأل البعض عن حكم جعل يوم السبت إجازةً أسبوعية، والآخر ينقّب عن صاحب الشركة المنتجة للعصير، والآخر يسأل عن شرعية بيع الصحف في التموينات، ولا تتوقف الأسئلة عند الشاكّ بشرعية عمل ابنته ممرضة، أو عمل ابنه في مؤسسة مالية، كل هذا التشطيط والتشقيق يمنع الناس من التحرك الحر في الحياة، فنبقى مأسورين بالفقه المبني على الشك بالدنيا، لا القائم على تأصيل الإباحة في الأشياء، وفقاً لإدراك أن الله أمر الخلق بعمارة الأرض، ولكون الأديان جاءت لتريح الناس وتتسبب في سعادتهم، لا لتعرقل حياتهم، وتكون سبباً في تعاستهم!
إن الحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيله، والذين يشككون بالدنيا وبقيمتها إنما يمنعون البشرية من إعمار الأرض وإنمائها. ليس من الحكمة أن تكون الحياة محاصرة بالفقه الذي يوصف عادةً بأفكار الزوال، أو أفكار الرحيل، وإنما الضرورة الملحة الآن أن تسود أفكار الأمل، فالشخص الذي يريد تنمية الحياة يعيش وكأنه يعيش أبداً، أما الذين يكرسون عقلية الشك بالحياة فإنهم يحفرون للتنمية قبراً ضيقاً، ويسيرون في جنازة الإنسان، ولو معنوياً، عندما ينظرون إلى كل مستجدٍ من مستجدات الحياة نظرة ريبة وشك!
قال أبو عبدالله غفر الله له: ليستصحب الإنسان البراءة الذاتية والأصلية، والذين يسألون عن كل شيء إنما يشددون على أنفسهم وعلى الناس، فلا مجال لتحويل كل مسألةٍ إلى حرب فتاوى أو معارك إقصاء أو تحزبات تيارات، بل الدنيا للبشرية ونحن هنا لإنمائها، فلنؤمن بالحياة أيضاً، فهي التي بين أيدينا ويمكننا غرس ثمارنا على أرضها!