يتحدث الكثيرون عن “انفلات الفتيا” وأنها أصبحت كلأ مباحاً، الكل يخوض غمارها، ويتجشم أرضها الوعرة؛ ومع صدقهم في التحذير من ذلك الانفلات، غير أنني أقترح أن نرى المشكلة من زاوية أخرى، غير زاوية “المفتي”، لندخل إلى مسألة “الفتيا” ذاتها. لم تكن الفتيا لتنفصل عن فقه المفتي، عن ثقافته، ومحتوى معلوماته. وبعض الذين يفتون إنما يعبّرون عن ثقافتهم وعن الذي حملوه من معلومات. المفتي هو حامل موضوع الفتيا، ومنتجها.
لهذا ليست المشكلة محصورة فقط بما درج على تسميته بـ”الانفلات”! بل المشكلة في الأفكار التي تطرح في الفتاوى. أظنّ أن العصر غيّر رؤيتنا لكثير من الأفكار والطروحات الفقهية. لو طرحت الفتاوى التي تطرح اليوم قبل عشر سنوات من الآن لربما سالت معارك في الشوارع، خاصةً فتاوى الغناء والرقص، أو حتى فتوى الاختلاط.
صحيح أنه بقيت قلة تناهض كل جديد، منطلقةً من تنظيم احتسابي هو خارج التنظيم الاحتسابي الرسمي، غير أن الأغلبية الساحقة من المجتمع لا ترى ضرورة لمنازلة المخالف، خاصةً أن الموسيقى لم تعد كبريتاً أحمر، بل حتى بعض البرامج الإسلامية والقنوات الدينية تستخدم الموسيقى في الفواصل والبرامج.
لنعكس المسألة ونقل إن المشكلة “فقهية” ولا يمكن الزعم أنها مأساة تنحصر بانفلات الفتيا، أو عدم وجود فقهاء متمكنين، المشكلة في آلية التحصيل الفقهي، وفي طريقة تفاعل الفقه مع إيقاع العصر. أذكر أن الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه “الفتوى بين الانضباط والتسيب” أشار إلى سرعة العصر، وتغيره، وضرورة الدخول الحقيقي في دهاليزه وبكل ما يفرضه من تحديات وبخاصةٍ منها التحديات الاجتماعية.
قال أبو عبد الله، غفر الله له: قرأتُ في خبر صحافي أن: المفتي عبد العزيز آل الشيخ يدرس مع هيئة كبار العلماء تعيين مفتين بكافة المناطق بالمملكة. أظن أن تحرير معنى الفتوى هو بذاته أمر مهم، أن تطرح هيئة كبار العلماء رؤية للتفريق بين الرأي في الشريعة، وبين الفتوى الشرعية.
وبصفتي صحافيا متابعا، تعجبني الآراء الشرعية، وأستمع إلى براهين الفتاوى أياً كانت اتجاهاتها، لأنني لستُ منحازاً لفريق ضد آخر، تجذبني القفشات الصحافية، والحراك الديني والثقافي أياً كان اتجاهه. لكن المؤذي أن أرى مجتمعي وهو يتخبط يميناً وشمالاً بأثر الاضطراب “الفقهي” السائد حالياً للأسف الشديد.