لا أحب أن أكون متشائماً، لكن يبدو لي أحياناً، أننا مجتمعات تحارب المبدعين، وتستهزئ بهم، بل وربما تسخر منهم!
لنأخذ بعض الأمثلة على تلك الحرب. في الثقافة السائدة ينتشر المثل الشعبي: “لمّا شاب ودّوه الكتّاب”، ولا يقلّ عن تلك الجملة سوءاً وتثبيطاً قول العرب: “العلم في الكبر كالنقش في البحر”، بينما نجد في دول العالم الأخرى، وفي المجتمعات الحيّة كبار السنّ وهم يتعلمون، ويضعون أجسادهم على مقاعد الدراسة بكل شموخ، ومن دون أن يعترضهم مستهتر أو يسخر بهم ساخر. ومن دون أن تطاردهم نظرات الازدراء والتي نجيد توزيعها جيداً على كل الذين يحاولون اغتنام مواهبهم لفعل شيءٍ ذي بال يشعرهم بقيمتهم في الحياة.
تسلّمت السيدة الأمريكية: “نولا أوكس” أمس السبت شهادتها في ماجستير الدراسات الحرة، من كلية هايز بولاية كنساس. نولا تبلغ من العمر ثمانية وتسعين عاماً، وهي تمخر عباب الإقبال على المئة (للتذكير تكتب المئة رقما 100)، وقالت الطالبة الشابة: لسبب ما أستمتع بالمشي على تلك المنصة واستلام الشهادات.
تقول اوكس إنها ربما تشعر بالغرور رغم أنها لا تريد ذلك وأنها لا تنوي التوقف عن دراستها بعد تلقي شهادة الماجستير. وذكرت أنها انخرطت في صف جديد للصيف المقبل، وصفين آخرين للخريف المقبل. أوكس التي لديها 15 حفيدا كانت قد حصلت على لقب أكبر الطلاب سنا في العالم بعد تخرجها من جامعة فورت هايس حينما كان عمرها 95 سنة!
قال أبو عبدالله غفر الله له: المشكلة أن وزارة التعليم العالي وضعت سناً للتقدم للانتظام في الجامعات، كما وضعت سنّ الأربعين كحد أقصى لقبول طلبات الدراسات العليا، وهذه حرب نظامية على حريّة التعلم في أيّ مرحلة من الحياة. هب أن المتقدّم المسنّ لديه كل شروط الإبداع ما ذنبه إن اشتعل رأسه شيباً؟!
إن الحرب ضد الإنسان الطموح ليست اجتماعية أو ثقافية، وإنما حتى نظامية. يواجه المبدعون صغاراً وكباراً الكثير من السخرية، والكثير من النظرات المزدرية، لأنه لم يقبل أن يكون شخصاً عادياً مثله مثل غيره من الناس، لهذا يبدو مثيراً للنظرات.
أظنّ أن هذه السيدة المئوية، إلا قليلاً، تعلّمنا فنّ العيش؛ أن لا نكفّ عن التعلم والاستزادة من المعارف، وأن لا يكون العمر عائقاً أمام الدراسات والشهادات، وبعض الثلاثينيين والأربعينيين، وربما العشرينيين، ما إن تحدثه عن التعلم والمعرفة حتى يشيح بوجهه عنك إشارة إلى عمر يظن أنه يجعله عصياً على التعلم!