زخر تاريخنا الفكري المعاصر بأسماء لامعة ومؤثرة، وضعت لها موطئ قدمٍ في التداول الفكري، عالمياً، وليس عربياً فقط!
عبد الله العروي، محمد أركون، محمد الجابري، وجورج طرابيشي، من الصعب أن يخرج قارئ من كتبهم كما دخل. إنهم يحدثون خسوفاً وزلازل في القناعات والأفكار المتداولة الموروثة من دون فحص أو تمحيص. إنهم يوقفون الإجازة المفتوحة التي نمنحها لعقولنا، ويعيدون تفعيل الأسئلة المشروعة في أذهاننا.
رحلاتهم مع العلم والتعلم هي نبراس للطلبة والطالبات، إصرار وجد، وصبر وجلد على الفهم والتعلم.
قبل أيام كتب الدكتور طرابيشي مقالةً مؤثرة بعنوان: «ست محطات في حياتي»، تنقّل بالقارئ فيها بين القوة والضعف، الصلابة والتهشّم، المنشط والمكره. روعة الكتابة تلك، أنها تكشف جانباً من شخصية مفكّر قدير، لا شك أنه أحد أهم المفكّرين المعاصرين والأحياء اليوم.
بها تحدّث عن التحوّلات في تديّنه، ومن ثمّ التوجه البعثي، والدخول إلى السجن، وصولاً إلى اهتمامه بدراسات فرويد، والتي أثّرت فيه كثيراً. يروي قصة الدخول إلى عالم فرويد: «قصتي مع فرويد بدأت بواقعة لا تخلو من طرافة.
فبعد أن تزوجت وصار عندي بنتان، كنت كلّما جلست إلى المائدة لآكل الطعام، أمسك برغيف الخبز… فلا أجد نفسي إلا وأنا أقطّعه من أطرافه لا شعورياً، وزوجتي وابنتاي قاعدتان أمامـــي على المائدة تأكلان، وكنت لا أستطيع منع نفسي من تفتيت الخبز، حتى عندما يكون معنا على المائدة ضيف.
كانت زوجتي تقول لي بلهجتها الحلبية: عيب يا جورج… وهكذا إلـى أن صادف ذات مرة أن قرأت مقالاً- لا أعتقد أنه كان لفرويد، وإنما لأحد تلاميذه – يحكي عن هذه الظاهرة النّفسية، ويعتبرها عرضاً عصابياً بصفتها فعل تمزيق لا إرادي ولا شعوري للأب. وأنا عندما قرأت هذا المقال، أصبت برجفة: فأنا إذن أمزّق أبي! وبالفعل، كنت على صدام في مراهقتي مع أبي».
وبنقده الكبير للجابري بمشروعٍ ضخم، يتحدث عن تلك التجربة بصدق وإنسانية وتجرد الكبار، بعد صدمة اكتشافه لوهمٍ من الجابري، بما يتعلق بموقف إخوان الصفا من المنطق والفلسفة، إذ راح يبحث في بطون كتب التراث، متعقّباً هوامش الجابري، مقتفياً أثر الاستشهاد والاعتضاد، انتقده بآلاف الصفحات.
لكنه في ذات الوقت أكد: «وإني لأقولها صراحة اليوم: إني أعترف للجــابري، الّذي قضيت معه ربع قرن بكامله وأنا أقرأه وأقرأ مراجعه ومئات المراجع في التراث الإسلامي، ومن قبله المسيحي.
ومن قبلهما التراث اليوناني، وكل ما يستوجبه الحوار مع مشروعه، إني أقرّ له، وأعترف أمامكم، أنّه أفادني إفادة كبيرة، وأنه أرغمني علـــى إعادة بناء ثقــافتي التراثية. فأنـــا له أدين بالكثير، رغم كلّ النقد الّذي وجّهته إليه».
طرابيشي الذي اقترن اسمه بالجابري، في نقد النقد، استمر منتقداً لنفسه، مصراً على إعادة رؤاه باستمرار، وعرضها على أدوات الفحص والتحليل، لم يركن إلا الحقائق المغلّفة، ولا الرؤى الجاهزة، بل كان ثائراً، حتى على ما يطرحه هو، وهذا النقد المتواصل، وعدم الركون إلى المغلف من الرؤى.
وعدم الاطمئنان إلى سلامة الأفكار التي يعيش المرء عليها، هو ما ميز طرابيشي، الذي نقد نفسه، فتجدد، وكرر الأسئلة على منهجه، فتفوق، وهذا ما يصنع الكبار، ويبقي الصغار صغاراً في الفكر والثقافة.
آمن طرابيشي بالكتابة متنفّساً، وسبيلاً لتغيير أفكار المجتمع، وطبقاته المتكلّسة، أوجعته أزمة سوريا الكارثية، وطنه، فخاف على كتابته قائلاً: «إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً، على هامش ما قد يكونه الموت الكبير، الذي هو موت الوطن».