لا يمكن حتى لعتاة كارهي باريس، أن يستوعب ما حدث لهذه المدينة الآسرة الساحرة! المظاهرات بدأت اعتباطية تجريبية، ولكنها غدت عدوىً أوروبية فوضوية، ووصلت لحد التدمير والإفساد!
حرقت سيارات في شارع «بلزاك»، سيد الأدب المسرحي، ولو كان حيّاً، لتألم لرؤية روايته:«أوهام مفقودة»، ممزقة في الشوارع، أو مرمية في النهر، كما فعل المغول بتراث بغداد وكتبها!
سلوك الجماهير لا يخضع للمنطق، ولا يحركه العقل، وبالتالي لا يسيطر عليه العقلاء. هذا ما جعل السلوك الجمعي الجماهيري يستند إلى المشاعر أو السيكولوجية، كما يقول، غوستاف لوبون، في كتابه: «سيكيولوجية الجماهير». لوبون، الفرنسي العتيد، الدارس للحضارات، وتاريخها، من محطته غرباً إلى أقاصي الشرق، حتى لم تعد التحركات العابثة، تُذكر من دونه أو استعراض نصوصه، هو المشخّص الأبرز لسلوك الجماهير، ونمط دبيبها على الأرض، لشدة دقته في دراسة أنماط الثائرين.
والمتابع يرى المظاهرات وما نتج عنها تشويهاً تجدر دراسته، فالحالة عصيّة على التعريف، وبخاصة عند تأمل تاريخ النظرة الجمهورية، والرؤية المنتقلة لفرنسا، عبر العصور.
في عام 1753، أجاب الفيلسوف السويسري، الذي بات فرنسياً هجرةً وثقافةً، جان جاك روسو، على سؤالٍ اقترحته أكاديمية ديجون: ما أصل التفاوت بين الناس؟ وهل جزء من الناموس الطبيعي؟!
ولئن كان روسو سويسرياً، غير أن ما كتبه أثر على الأحداث السياسية في أوروبا عموماً، وفي فرنسا بشكلٍ أساسي، حيث ارتبط بعلاقات سياسية متشعبة، بل وأثر فيها. يصفه هنري كسينجر، بـ«عراب الثورة الفرنسية». بدا السؤال مثيراً، لعقل مضيء لديه أدوات حادة ،مثل «روسو»، كان جوابه باباً لنظرياتٍ استثنائية في تاريخ السياسة الحديث، دونها بكتابه الشهير: «أصل التفاوت بين الناس». بالديباجة الرئيسة للكتاب، إعلان رسالةٍ لجمهورية جنيف، ما اعتبرها المؤرخون لنتاج روسو نواةً لبقية نظرياته، وبخاصة كتابه الأثير المؤثر:«العقد الاجتماعي»، وكتاب: «أصل التفاوت»،.
يعلم دارسو روسو، أنه المدخل للعقد الاجتماعي، لما أصل من مضامين ومبادئ، وخاصة أن نظريته حققت عبر الثورة الفرنسية، حلم «النظام الجمهوري»، الذي يرضخ رئيسها الآن، للتفاوض والتنازل لذوي السترات الصفراء، في مرحلةٍ عصيّةٍ، عصيبةٍ، فوضويةٍ بامتياز!
مرت قبل روسو، النظرية السياسية والعقد الاجتماعي لتحديات كبرت مع المجتمعات الأوروبية، وبالذات في سنين الحروب المدمرة بأوروبا.
يذكر عادل زعيتر، مترجم كتاب روسو «أصل التفاوت»، أن روسو كان على الضد من شخصيتين، فولتير، ومونتسكيو، باعتبارهما من الطبقات العليا، التي لم تذق المرارات، التي عاشها روسو.
فالرؤية الحادة والشاملة التي قدمها روسو، باتت نواة لمعظم المضامين الميثاقية، المتعلقة بالعقد الاجتماعي، وعلاقات الفرد والدولة، بشكلٍ يجعل من هذا الفيلسوف، من المؤسسين لمفهوم الدولة المعاصر، مع من سبقه مثل الإنجليزي، توماس هوبز.
فرنسا بتاريخها العريق، ليست بعيدةً عن الثورات وما تخلفه من مآسٍ ودماء وتدمير، فبذرة الثورة لا تنبت على الدوام ثمراً طيباً، وهذا ليس رأيي، بل هو تحليل أكاديمي شهير، وسياسي مخضرم، هو هنري كسينجر، حيث قال في كتابه: «النظام العالمي»: «قام عرّاب الثورة الفكري، جان جاك روسو، بصوغ هذا الادعاء الكوني الشامل، في سلسلة من الكتابات، التي نجح ما تتسم به من تبحر، وسحر، في حجب مضامينها الكاسحة، ناقلاً القراء خطوةً خطوةً، عبر عملية تشريح عقلاني للمجتمع الإنساني. أصر روسو على شجب سائر المؤسسات القائمة، من مؤسسات ملكية، ودينية، وطبقاتٍ اجتماعية».
كيسنجر، لا يقتصر على ما سبق، بل يعتبر حرب السنوات الثلاثين وخضّاتها، كان كثير منها يستند إلى المفاهيم المطروحة أولاً في الثورة الفرنسية، ولا ينسى التذكير بأحلام نابليون ومقلّديه، من نواة «النشر السياسي»، للتنوير الفرنسي، عبر الطرق المعروفة، التي شهدت المنطقة نماذج منها، عبر مواعظ رئاسية باهتة.
تجاوزت النظرية السياسية آثار الثورة الفرنسية ونصائحها، والأمل بصدق، أن تتجاوز هذه الدولة الهانئة البديعة العريقة كل الأزمات، وإنما على الفرنسيين نظرياً، الاعتراف بتقدم أمم أخرى، بعيداً عن منافسات التاريخ، بالنظر لخلاصات الإنتاج والتنمية، مع مراعاة الاختلافات الثقافية، ففي الهند والصين واليابان، خلافاً عن بريطانيا، تجارب ناجحة، وقد تتفوق على التجربة الفرنسية، مع كامل الاحترام، فليس نجاح الدولة مرتبطاً بتطبيق نظريات روسو، ولا منهجيات نابليون، دون تقليل من قدرهما!
جميع الحقوق محفوظة 2019