يتحدث بعض الوعاظ عن ذنوب أهل جدة، وأن معاصيهم التي بلغت عنان السماء هي السبب الذي أطاح بهم وجعلهم يسبحون في كل عامٍ مرةً أو مرتين فوق الماء وتحته، ويزعم الوعاظ أن أهل جدة لا يتوبون ولا هم يذّكرون!
مع أن البشر كلهم لديهم نسبة من الحسنات ونسبة من السيئات، والعصيان ليس حصراً بمدينة جدة. لوس أنجلس أو عواصم القمار والفساد التي أخذت بالأسباب الطبيعية لبناء المدينة لم يأتها هذا الفيضان المدمر. صحيح أن ما حدث في جدة بقضاءٍ وقدر لكن إحالته إلى المجتمع المنكوب والنيل من مجتمع وأهالي جدة بخطاب تحريضي منقوص هذا هو المرفوض جملةً وتفصيلاً.
لكن لماذا نسي بعض المتحدثين والخطباء “المعاصي المدنية”؟! وهي الأكثر فتكاً بالحرث والنسل، وهي التي أهلكت النفوس والمعوزين وجعلتهم عرضةً للغرق والموت وبلع الأرض المكسرة بالماء لهم ولأجسادهم ولأطفالهم؟
إن المعاصي المدنية ممثلةً بالفساد والمحسوبيات وشراء الأراضي والسرقات واختلاس الأموال وبيع النفوس عبر تخطيط الوديان وبيعها على الناس ونشر الغش والفحش التجاري والمالي هذه هي الذنوب والمعاصي المدنية التي سببت الكارثة. مهما تستر الفاسد بالألبسة والأغطية بالمشالح المطرزة بالزري والسيارات الفاخرة المنفوخة و”البوديقارد” المأجور. كل هذه الأشكال والألوان الزائفة لا تستر معاصي أولئك الفاسدين والعصاة مدنياً ووطنياً ودينياً.
إن قرع الناس ونبزهم بما ليس فيهم، واتهامهم بالذنوب والمعاصي والفجور فيه استفزاز لمشاعرهم. أغلب الذين ماتوا غير قادرين أصلاً عن ما يدعيه بعض الوعاظ من إقامة السهرات والعبث وشرب المسكرات. الذين دهست الأمطار أجسادهم بسطاء لديهم رواتبهم العادية هم من الطبقة الوسطى، المسؤولون عن المعاصي التي “في بال” الواعظ وفي خياله، هم نفس الفاسدين مدنياً هم الذين سرقوا جدة من عروقها وأحالوها إلى “وادٍ سحيق”!
فتشوا عن المعاصي المدنية، في الشوارع والأسواق، في المشاريع الغامضة، في صفقات “الباطن” في كل تلك الكواليس المغمورة، وراء الستائر والألاعيب السرية، الأولى بخطابنا الديني أن يتناول أولئك بالنصح والإرشاد والتوجيه، أما الذين يحضرون عندك أيها الخطيب فهم راغبون بالخير يخطئون فيستغفرون، الذين يحتاجون إلى خطابك التقريعي هم الذين خربوا جدة، وأكثروا فيها الفساد.
مزيداً من المراعاة لمشاعر الناس والمصابين والمنكوبين أيها الخطباء.. وقليلاً من التقريع!