(69) ذُكِرَ الأَنَامُ لَنَا فَكَانَ قَصِيدَةً * كُنْتَ البَدِيعَ الفَرْدَ مِن أَبْيَاتِهَا
قال أبو الفتح عثمان بن جني: «وهذا البيتُ أيضاً البَدِيعُ الفَرْدُ مِن أَبيَاتِ هذِهِ القَصِيدَةِ». يخاطِبُ الشاعر ممدوحه، فيقول له: إذا ذُكِرتْ مَحاسِنُ الأَنام كُلِّهم، إلى جانب مَحاسِنِكَ، فإن مَحاسنَكَ تَفْضُلُ على مَحاسِنِ الخَلائقِ، بل وَتَزِينُ مَحاسنُكَ الدهرَ وأهلَه، كما أن بيتَ الشِّعر البديعَ يَزِينُ قصيدةً كاملةً، بما فيه من إبداعٍ، وإمتاعٍ، وإقناعٍ. شبَّهَ الأنامَ بقصيدةٍ، وشَبَّهَ الممدوحَ بِبِيْتِ تلكَ القصيدةِ البديعِ، المتفرِّدِ، والمتميِّزِ.
(70) يَفْنَى الكَلَامُ ولَا يُحِيطُ بِفَضْلِكُم * أَيُحِيطُ مَا يَفْنَى بِمَا لَا يَنْفَدُ؟
قولُه: أَيُحيطُ ما يَفْنَى بما لا يَنْفَدُ؟: استفهامٌ بلاغيٌّ يؤكِّدُ النَفْيَ جواباً. يَفْنَى: الفَنَاءُ: نَقِيضُ الْبَقَاءِ. قال ابن فارس: «فَنِيَ يَفْنَى فَنَاءً، وَاللهُ – تَعَالَى – أَفْنَاهُ، وَذَلِكَ إِذَا انْقَطَعَ. وَاللهُ – تَعَالَى – قَطَعَهُ، أَيْ ذَهَبَ بِهِ».
ينفد: ينتهي. «(نَفِدَ) النُّونُ وَالْفَاءُ وَالدَّالُ: أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ شَيْءٍ وَفَنَائِهِ. وَنَفِدَ الشَّيْءُ يَنْفَدُ نَفَاداً. وَأَنْفَدُوا: فَنِيَ زَادُهُمْ. وَيُقَالُ لِلْخَصْمِ مُنَافِدٌ، وَذَلِكَ أَنْ يَتَخَاصَمَ الرَّجُلَانِ يُرِيدُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِنْفَادَ حُجَّةِ صَاحِبِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنْ نَافَدْتَهُمْ نَافَدُوكَ»، أَيْ إِنْ قُلْتَ لَهُمْ قَالُوا لَكَ». (مقاييس اللغة). ويفنى، وينفد، لهما معنىً واحدٌ. يقول الله تعالى: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾.
يُخاطِبُ الشاعر ممدوحَه بقولِه: إنَّ ما يقولُه الشعراءُ في مَدِيحِكم يَفنَى، دون أن يُحِيط بفضْلِكُمْ، فالكلامُ ينتهي ويفنَى، وفضلُكم لا مُنتهى له. ولذلك، لا غرابةَ أنْ يَعْجِزَ الفانِي (مدائحُ الشعراءِ فيكم)، عن إدراكِ الإحاطةِ بغيرِ الفانِي (فضلِكم ومحاسِنِكم ومناقِبِكم)!
(71) لَمَّا وزَنْتُ بِكَ الدُّنْيَا فَمِلْتَ بِهَا * وَبِالوَرَى قَلَّ عِنْدِي كَثْرَةُ العَدَدِ
الوَرَى: الخَلْق. يقول الشاعرُ للمَمْدُوحِ: (لمَّا وزنت بك الدنيا): أي، جعلتُك في كِفَّةٍ، والدنيا ومَنْ فيها مِنَ الخَلْقِ في الكِفَّةِ الثانيةِ، رَجَحَتْ كِفَّتُكَ، فتَبَيَّنَ أنَّ ما يُرَجِّحُ الكِفَّةَ، هو المَعَالي والمَعَاني والفَضَائلُ، لا كثرةُ العَدَدِ، ولذلك صار العددُ الكبيرُ عندي قليلاً، بالنظر إلى عَدَمِ أثرِهِ في رُجْحَانِ كِفَّةِ المِيزانِ.
ونحو بيتِ القصيدِ، بيتٌ للبحتري جاء فيه قولُه:
وَلَمْ أَرَ أَمْثَالَ الرِّجَالِ تَفَاوَتَتْ * إِلَى الْفَضْلِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ
ولابن دريد في المقصورة، قولُه:
وَالنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمُ كَوَاحِدٍ * وَوَاحِدٌ كَالْأَلْفِ إِنْ أَمْرٌ عَنَا
ولأبي نُواس، قولُه: وَلَيْسَ للهِ بِمُسْتَنْكَرٍ * أَنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِدِ
(72) مَاذَا لَقِيْتُ مِنَ الدُّنْيَا وَأَعْجَبُهَا * أَنِّي بِمَا أَنَا بَاكٍ مِنهُ مَحْسُوْدُ؟!
يقول المتنبي: إنَّه لَقِيَ العجائبَ من صُروفِ الحياةِ، وتقلُّباتِ الدُّنيا، وأَعْجَبُ ما واجَهَه من هذه العَجَائبِ أنْ حَسَدَهُ الحُسَّادُ لا على ما يُسعِدُه ويَسُرُّه ويُؤنِسُه، كما يُفْتَرَضُ أنْ يُحسَدَ عليه، وإنّما حَسَدُوه على ما يَبْكي منه حَسْرَةً وألَماً. وذلك لأنَّ الحاسدَ يحسِدُ على ظاهِرِ الأشياءِ، لا على حقيقتِها، وكثيراً ما يكون الظَّاهرُ خَدَّاعاً، وذلك لأنَّ ظاهرَ الأشياء لا يعكِسُ حقيقةَ باطِنِها، ذاك الذي قد يكون مناقِضاً ومعاكِساً للظَّاهرِ. وفي ما تَعَجَّبَ منه الشاعرُ كان تجسيداً لذلك، فما دَفَعَ الحاسِدَ إلى الحَسَدِ هو ما ظَنَّه في الأمرِ عبرَ نَظْرَةٍ خارجيةٍ، ولكنَّ الحقيقةَ أنَّ المَحْسودَ يُعاني مِمَّا حُسِدَ عليه، إلى حَدِّ البكاءِ من هذا الأمرِ!
لا يُعَبِّرُ المتنبي بهذه الصورةِ عن حُزْنِه بسببِ الحاسِدِ الذي أخطأ توجيهَ سِهامِ حَسَدِه، ولكنه يتعجَّبُ لشأنِ هذه الدُّنيا التي قادت صُروفُها إلى هذا الواقعِ، المُضْحِكِ المُبْكِي. في المَثَلِ: «رُبَّ مغبوطٍ على داءٍ هو داؤه».
وفي البابِ نفسِه بيتُ شعرٍ يُنسَبُ إلى يزيد بن معاوية، وقيل للوأواء الدمشقي، وقيل لعبدالمحسن الصوري، يقول:
هُمْ يَحْسُدُوني عَلَى مَوْتِي فَوا أَسَفِي * حَتَّى عَلَى المَوْتِ لا أَخْلوُ مِنَ الحَسَدِ
والبيتُ يُظهِرُ ما يُصابُ بِهِ الحاسِدُ من عَمىً في البَصِيرة يجعَلُه، إذا بَدَأَ ممارسةَ حَسدِه، كمَنْ فَقَدَ عَقْلَه، فيَحْسُدُ على البَلايا، وكأَنَّهُ يُضِيفُ لعَمَى البصيرةِ عمَى البَصَرِ، ولا حول ولا قوة إلا بالله!