(76) ذَرِيـنِـي أَنـَلْ مَا لَا يُـنَالُ مِنَ العُلَا * فَصَعْبُ العُلَا فِـي الصَّعْبِ والسَّهْلُ فِي السَّهْلِ
(77) تُـــرِيــدِيــنَ لُـقْـيَـانَ المَـعَــالِــي رَخِـيـصَـةً * ولَا بـُـدَّ دُونَ الشَّهْدِ مِنْ إِبَـرِ الـنـَّحْـلِ
ينقُل لنا المتنبي، في هذيْن البيتَيْن، تصويراً بليغاً لصِراعِ الإنسانِ مع نفسه حين يَسْعى إلى المجد والعلياء، وما يبذُلُ من جهدٍ لتحقيقِ أهدافِه الساميةِ. وفي البيتَيْن، تَنْضَحُ حكمةٌ خالدةٌ، ومعرفةٌ عميقةٌ بطبيعة الحياة، ويتجلَّى منهما تأكيدٌ بأنَّ العظمةَ لا تأتي إلا بالصَّبرِ، والتحمُّلِ، والتَّعبِ، وأنَّ الطريقَ إلى المجدِ محفوفٌ بالصِّعابِ، كما أنَّ الوصولَ إلى العَسِلِ يتطلَّبُ تحمُّلَ لدغاتِ النَّحلِ.
يُخاطب الشاعر نفسَه، ويطلُبُ منها أن تَدَعَه يسعَى وراء المَجْدِ، والمراتِبِ العاليةِ، والدرجات الرفيعةِ، حتى وإن كانت تلك المراتبُ الساميةُ لا تبدو سهلةَ المَنالِ. إن طالِبَ العَلْيَاءِ، متى كان جادّاً في سَعْيِه، مجتهداً في سَيْره، يبلُغُ، بإصرارِه على صُعودِه وتَرَقِّيه، مبلغًا تكون فيه الغايةُ أنْ ينالَ من الغاياتِ ما لا يُنالُ، يَعضُده في ذلك طموحٌ عالٍ، وعزمٌ لا يكِلُّ، وبذْلٌ بلا حِساب.
يقول: «ذَرِينِي أَنَلْ مَا لَا يُنَالُ مِنَ العُلَا»، أي اُترُكيني أُحَاوِل الوصولَ إلى ما يبدو مُسْتحيلاً، فالصُّعوبةُ هي في جوهَرِ العظمةِ، كما أن السهولةَ في الأمور السهلةِ. هذا المَفْهومُ يَتَكَرَّرُ في شِعْر أبي الطيب المتنبي، ويدلُّ على تقديرِه الجهدَ والمثابرةَ فيه، بوصفِهما جُزْءًا أساساً من تحقيقِ الأهدافِ العظيمةِ، وبلوغِ المراتبِ العُلْيَا. ثم يُكْمِل الشاعرُ فيقول: «فَصَعْبُ العُلَا فِي الصَّعْبِ والسَّهْلُ فِي السَّهْلِ»، وهو هنا يستخدم نوعاً من التَّكرارِ يُعزِّز المعنى، إذ يُبيّن أن القممَ العاليةَ تستحِقُّ ما يُبذَل لبلوغِها من الجهدِ والتعبِ، في حين أن الأهدافَ السهلةَ تتحقق بيُسْرٍ، ولكنها لا تُفضي إلى ما يستحق الفخْرَ.
في الشطريْن الثالثِ والرابعِ، يتطرَّق الشاعرُ إلى التوقُّعاتِ الخاطئةِ: «تُرِيدِينَ لُقْيَانَ المَعَالِي رَخِيصَةً، ولَا بُدَّ دُونَ الشَّهْدِ مِن إِبَرِ النَّحْلِ». أي إِنكِ يا نفسي، تتوقَّعين أن تأتي العظمةُ رخيصةَ الثمن، يسيرةَ الجهد، ولكنْ لا شيءَ ثميناً يأتي دون جهدٍ جهيدٍ، تماماً كما لا يمكن الحصولُ على العسل دون التعرُّض للسعاتِ النحل. هذه الأبيات ترتكز على أساس مفاهيمي مَتِينٍ قائمٍ على مقارنةِ العظمةِ بالعسلِ، والمصاعبِ بإبَرِ النحلِ. فالطريقُ إلى العُلَا ليس مفروشاً بالوُرُودِ، بل هو طريق مليء بالأشواكِ والعوائقِ.
إذا كُنْتَ ترغب في الحصول على شيء ثمين، فعليك أنْ تتحمَّلَ ما يأتي معه من صعابٍ، ولكلٍّ ثَمَنٌ. على مستوى البِنْيِةِ الشِّعْرِية، تَتَّسِمُ الأبياتُ بحُضورِ توازُنٍ لُغَوِيٍّ جميلٍ، حيث يُشَكِّلُ الشَّطْران الأولُ والثاني توازياً بين «الصعب في الصعب» و«السهل في السهل».
هذا التوازي يُضفي على الأبياتِ نوعاً من الإيقاع والانسجام الداخلي، الذي يُشدِّدُ على فكرةِ أن العظمةَ ليست سهلةَ المَنالِ، وأنَّ مَن يطلُبُ المعالي يجب أن يكون مستعداً لمُوَاجهةِ المَشاقِّ.
وأَجْمِلْ بقولِ أبي فراس الحمداني: تَهُوْنُ عَلَينَا فِي المَعَالِي نُفُوْسُنَا * وَمَنْ يَخْطبِ الحَسْنَاءَ لَمْ يُغْلِهِ المَهْرُ نرى، من خلال هذه الأبيات، أن الشاعرَ يدعو إلى الصبر والمُثابرةِ، لأنَّ الشخصَ الذي يرغَبُ في الوصول إلى القممِ يجب أن يتحمَّلَ الألمَ والمعاناةَ. فالعظمةُ ليست هِبِةً تُعطَى للمَرْءِ من دون جهدٍ، بل هي نتيجةٌ لتضحيات كبيرةٍ.