(7) أفاضِلُ النَّاسِ أغراضٌ لِذَا الزَّمَنِ * يَخلُو مِنَ الهَمِّ أَخْلَاهُمْ مِنَ الفِطَنِ
هذا البيتُ من مَحاسِن ابتداءات المتنبي، ومن حِسانِ مطالع قصائده.
وفيه يتحدث عن سُنَّة كونية، مدارُها أنّ الفضلاءَ من الناس تستهدفهم همومُ الحياة، ومصائبُ الزمان، حتى صوَّرَهُم مستهدَفين من الزمن بنوائبه.
ولفظة «أغراضٌ» هي هنا أهدافٌ.
والمصائب عند المتنبي جالبةٌ للهموم، ولذلك قال في عَجُز البيت إن عديم الفِطنة، إنما هو الخالي من الهَم، أمّا أشدّ الناس فِطنةً فهو أكثرهم هَمّاً.
أراد المتنبي أن يُسَلِّي كل من علت همته، بأنَّ من عادة الحياة، ونظام الدنيا، أن تزيد همومُك كلما علت همَّتُك واشتدّت فطنتُك.
وكان المتنبي أشار إلى شيء من ذلك، في قوله:
وإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَاراً * تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأَجْسَامُ
يُنسَبُ إلى أرسطو، وقيل إنه أصل بيت المتنبي، قوله: «على قدر الهِمَمِ تكون الهُمُوم».
فإذا ارتفعت الهِمَّة، زاد الهَم، لأن الهمة العالية، سامية المنزلة، فلا تُنَالُ إلا بالتضحيات، والمشقات، وهي صعاب جالبة للهموم.
وعلينا ألَّا ننسى أنَّ مَن لا هَمَّ عنده، ليس بذي فطنة، ولا غرابة حينها ألَّا يكون مِن أرباب الهمم العلية.
وفي هذا المنحى، قال البحتري:
أَلَمْ تَرَ للنَّوائب كيف تَسْمُو * إلى أهْلِ النَّوافِلِ والفُضُول
وتمثل الشريف الرضي المعنى، فقال:
وَضُيُوفُ الهُمُومِ مُذْ كُنَّ لَا يَنْ * زِلْنَ إِلَّا عَلَى العَظِيمِ الشَّرِيفِ
(8) وهَبْنِي قُلْتُ: هذا الصُّبْحُ لَيلٌ * أَيَعْمَى العَالَمُونَ عَن الضِّيَاءِ
هَبْني: بمعني هَبْ أنّني، أي افترض جدلا أني قلتُ إن الصبح ليل، واستخدام الصبح والليل طباق.
وقال: افترض جدلا، لأنَّ القول من غير المعقول، فالصبح نقيضُ الليل، وآيةُ الصبح، نورُه الوضاءُ، وبريقُ الضِّياءِ، وسطوعُ الأضواءِ، ولمعُ السَّناءِ.
وآيةُ الليل، ظلمتُه الظلماءُ، وعَتمتُه القاتمةُ، وسوادُه الكالحُ. فالمتنبي يصف الصبحَ بالليل، وهو من غير المعقول. لكنه أراد أن يضرب مثلاً، فطلب أن نفترض أنه قال هذا القول، فهل يَعمى الخلقُ عن إبصار الضِّياء، بينةِ الصبح، الذي يستحيل أن يأتي ليلاً؟!
العالَمون: أصناف الخَلْقِ. (الصحاح، للجوهري).
والمعنى: أن الأمور الواضحة، لا تحتاج إلى بيان ولا دليل، كما لا تَقدح في وضوحها الأكاذيب، والمغالطات.
إن صحةَ النظر تقود المرءَ للصواب، والنظرُ غير الصحيح، في الرُّؤية والرأيِ، يُتّوِّه المرءَ، في عزِّ النهار، والشاعر يقول:
إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ * فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ
(9) ولَيسَ يَصِحُّ في الَأَفْهَامِ شَيءٌ * إِذَا احتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ
الأفهام: جمع فهم، وهو العقل والذهن. فمن يلزمه دليل لإثبات النهار، لا يصحُّ فهمُه لأيّ شيء، بمعنى أنه لا عقل له. وعلى هذا الأساس قال الفلاسفة: «مَنْ شَكَّ في المُشاهَدَاتِ فليسَ بكامِلِ العَقْلِ».
ومن لم يصدق ما يرى بعينه، فلا تُطِل جدالَه، فلا عقل لديه، يمكن أن تحتكما إليه!
الحاجة إلى دليل، يكون لبيان الأمر الخفي، أما الواضح، فمثل النهار لا يحتاج إلى دليل.
في (الأمثال)، لأبي عبيد القاسم بن سلام، أن َمن أَمثالِ العرب:
«وهل يخفى على الناس النهار».
وفي (مجمع الأمثال)، قولهم:
«هَلْ يَخْفَى عَلَى النَّاسِ القَمَرُ؟». يُضرَب للأمر المشهور.
قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَقَدْ بَهَرْتَ فَمَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ * إِلَّا عَلَى أَحَدٍ لَا يَعْرِفُ الْقَمَرَا
وبهرت: أي برعت.
ومثل بيت أبي الطيب، قولُ أبي تمام:
الصُّبْحُ مَشْهُورٌ بِغَيْرِ دَلاَئِلٍ * مِنْ غَيْرِهِ ابْتُغِيَتْ ولا أَعْلَامِ