(19) وَأُكْبِرُ نَفْسِي عَنْ جَزَاءٍ بِغِيبَةٍ * وَكُلُّ اغْتِيَابٍ جَهْدُ مَنْ مَا لَهُ جُهْدُ
أُكْبر نفسي: أي أجْعَلُها في موضِع أَجَلَّ، وأراها كبيرةً على فعل ما لا يليق بها.
جزاء: جزاه إذا حاسبه على ما قدَّم، إن خيراً فخيرٌ، وإن شرّاً فشرٌّ، فالجزاء يكون ثواباً ويكون عقاباً.
والغِيبةُ، كما في اللسان: مِنَ الاغْتِيابِ. واغْتابَ الرجلُ صاحبَه اغْتِياباً إِذا وَقَع فِيهِ، وَهُوَ أَن يَتَكَلَّمَ خَلْفَ إِنْسَانٍ مَسْتُورٍ بِسُوءٍ، أَو بِمَا يَغُمُّه لَوْ سَمِعَهُ وإِن كَانَ فِيهِ، فإِن كَانَ صِدْقاً، فَهُوَ غِيبةٌ، وإِن كَانَ كَذِباً، فَهُوَ البَهْتُ والبُهْتانُ، كَذَلِكَ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ، ﷺ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلا مِنْ وَرَائِهِ، وَالِاسْمُ: الغِيبةُ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)، أَي لَا يَتَناوَلْ أحدُكم رَجُلاً بظَهْرِ الغَيْبِ، بِمَا يَسُوؤُه مِمَّا هُوَ فِيهِ. وإِذا تَنَاوَلَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ بَهْتٌ وبُهْتانٌ.
واستخدم المتنبي، في البيت (جهد) مرتين:
الأولى: (جَهْدُ) المَشَقَّةُ.
والثانية: (جُهْدُ) الطَّاقَةُ.
مؤكداً أن الاغتياب هو جَهْدُ مشقة، لمن ليس عنده جُهْدُ طاقة.
فمن يلجأ إلى مواجهة خصمه بالحديث في غيابه، لن يكون لديه أفعال يواجهه بها في حضوره!
ويذهب الشاعر، إلى أنّ من يلجأ إلى الغيبة، هم أسافل الناس، الذين لا قيمة لهم ولا قدر.
قَال الوليدُ بن عُتْبَةَ بن أَبيِ سُفْيَانٍ:
«كُنْتُ أَسَايِرُ يَوماً أَبيِ، ومَعَنَا رَجُلٌ يَقَعُ فِي رَجُلٍ غَائبٍ، فقَال ليِ أَبيِ: ويلَكَ! ومَا قَاله ليِ قَبْلُ ولَا بَعْدُ، نَزِّهْ سَمْعَكَ عَن اسْتِمَاعِ الخَنَا كَمَا تنزِّهُ لِسَانَكَ عَن الكَلَمِ بِهِ، فَإِنَّ المُسْتَمِعَ شَرِيكُ القَائلِ، ولَقَدْ نَظَرَ إلى أَخْبثِ مَا فِي وِعَائهِ، فَأَفْرَغَهُ فِي وِعَائكِ، ولَو رُدَّتْ كلمةُ جَاهِلٍ فِي فِيهِ، لَسَعِدَ رادُّهَا، كَمَا شَقِيَ قَائلُهَا».
وبيت القصيد، كقول معبد بن علقمة المازني:
تُعَاقِبُ أَيْدِينَا وَيَحْلُمُ رَأْيُنَا * وَنَشْتُمُ بِالْأَفْعَالِ لَا بِالتَّكَلُّمِ
(20) ومَا الخَوفُ إلَّا مَا تَخَوَّفَهُ الفَتَى * ومَا الأَمْنُ إِلَّا مَا رَآهُ الفَتَى أَمْنَا
جاء في الحديث، أن النبي، ﷺ، قال: «من تعَلَّقَ بشيءٍ وُكِلَ إِليهِ».
إن قرار المرء أن يخاف، أشدّ سطوة عليه ممّا استدعى خوفه، وقراره في الجهة المقابلة بأن يأمن، يجعله يعيش في أمن وأمان، ولو كان في وسط معمعة القتل والسلب والنهب.
وهذا مِن قول دِعْبِلٍ:
هِيَ النَّفْسُ مَا حَسَّنْتَهُ فَمُحَسَّنٌ * لدَيها وَما قَبَّحْتَهُ فَمُقَبَّحُ
فما تختار النَّفس أن تجعله حسناً مقبولاً جميلاً، فهو حسنٌ جميلٌ مقبولٌ. وما اختارت النَّفس أن تحكم عليه بأنَّه قبيح، فهو عينُ القُبْحِ.
ومثل ما قَبَّحْتَهُ النفس وحَسَّنْتَهُ، ما تخوَّفه الفتى فهو الخوفُ ولو كان في حقيقته أَمناً، وما رآه الفتى أمناً فهو الأمنُ ولو كان في حقيقته خوفاً.
في كتاب (الأمثال)، لأبي عبيد القاسم بن سلام:
أنَّ من أمثالهم: اكذِبِ النَّفْسَ إذا حَدَّثْتَها.
ومعناه: الرجل يهم بركوب أمر جسيم، يقول: فلا تحدِّث نفسك بأنك لا تظفر، فإنَّ ذلك يثبطك عن السمو إلى معالي الأمور، ولكن حدث نفسك بالظفر، لتشيعك نفسك على ما تريد.
ومنه قول لبيد بن ربيعة:
واكذِبِ النّفْسَ إِذَا حَدَّثْتَها * إنَّ صِدْقَ النّفسِ يُزرِي بِالأَمَلْ
وفي لامية الطغرائي، المشهورة بـ (لامية العجم)، قوله:
أُعَلِّلُ النَّفْسَ بالآمال أرْقُبُها * ما أضْيَقَ العَيْشَ لولا فُسَحَةُ الأمَلِ
وغير بعيد عن ذلك، أنك ترى في هذه الدنيا مَن يعبدُ من الأشياء، ما لا يُمكن تصوُّره، ويتخذه إلهاً معبوداً، مؤمناً كل الإيمان بضُرِّه وبنَفْعه، فإذا جرى على هذا الإنسان خير، اعتبر أنه من تدبير ما يعبُد، فشكره، وإذا جرى عليه شرٌّ، اعتقد أنه بأمر هذا المعبود، فاستغفره!
وهذا مثل بيت القصيد، فإيمان هذا بما يعبد، جعله مثل الفتى، فما تخوَّفه فهو الخوف، وما رآه أمناً هو الأمن.
والعجائب لا تنقضي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.