(21) أَنَامُ مِلْءَ جُفُونِي عن شَوارِدِهَا * ويَسْهَرُ الخَلْقُ جَرَّاهَا ويَخْتَصِمُوا
مِلءَ جُفوني: دلالة على النوم العميق، والاستغراق في النوم.
الشَّوَاردُ: الشعر أبياتاً وقصائد، مِن قولهم: شَرَدَ البعيرُ؛ إذا نَفَرَ.
جَرَّاهَا: بسببها ومن أجلها.
يختصموا: معنى الاختصام: اجتذَابُ الشّيء مِن النوَاحِي والزَّوَايا، مأخوذٌ مِن الخُصْم؛ وهو طَرَفُ الوعاءِ. (الواحدي).
يقول: أنام هادئَ النفس، متمكنَ النوم، لا أُعجب بشوارد ما أُبدِع، ولا أحفل بنوادر ما أَنْظم، ويسهر الخلقُ في تحفُّظ ذلك وتعلُّمه، ويختصمون في تعرُّفه وتفهُّمه، فاستقلُّ منه ما يستكثرونه، وأغفل عما يغتنمونه. (ابن الإفليلي).
وللدلالة على وصف الشعر بالشوارد، يقول القطامي:
وطالما ذَبَّ عَنِّي سُيَّرٌ شُرُدٌ * يُصْبِحْنَ فوقَ لسانِ الراكِبِ الغادي
المعنى: يذكر المتنبي، أنه يغطّ في نوم عميق، لا يمنعه منه هَمٌّ، ولا يصرفه عنه تفكيرٌ بشيء، وإذ جفونه ملأى بالنوم، لا يُفكر في إبداع ما قال من أبيات، جعلها جمالُها تصير من الشوارد، جراء سريانها بين الناس، يسهر الخلق من أجل هذه الشوارد البديعة من شعره، ويختصمون في تفسيرها، وشرحها، وبيان مواضع جمالها.
وينطبق بيت القصيد أيضاً، على اجتماع فئات من الناس، للحديث في شخصٍ ما، وما يقول، وما يكتب، وما يقصد، وما لا يقصد، وهو لا يعلم بهم، ولا فكَّر بما يبحثون فيه، ولا علم عنه، ولا حمل همَّه، ولا طرأ على باله.
(22) وإِطْرَاقُ طَرْفِ العَينِ لَيسَ بِنَافِعٍ * إذا كَانَ طَرْفُ القَلْبِ لَيسَ بِمُطْرِقِ
الإطراق: النظر إلى الأرض. وعادة ما يكون الإطراق مع الصمت. واشتق الإطراق من الذي ينظر إلى الطريق، وهو صامت، لأنه منشغل بطريقه.
وطرف العين: بصرُها.
والإطراق بطرف العين، مظنة إنصات وتركيز، واهتمام، وعادة ما يكون الإطراق مع الاستماع لما يُقال للمُطرِق.
وكم من مُطرِقٍ يبدو منصتاً، وقلبه ساه في لُججٍ أُخرى؟!
يقول أحمد شوقي:
لَقَد أَنَلتُكَ أُذناً غَيرَ واعِيَةٍ * وَرُبَّ مُنتَصِتٍ وَالقَلبُ في صَمَمِ
أي إني أعطيتك أُذناً، وذلك بسماعي، لكنها غير منصتة، ورب صامت يبدو مستمعاً، وقلبه في صممٍ، لأنه لا يسمع، إذ هو مشغول بأمور أُخرى، فهو لا يُلقي بالاً لما يُقالُ لهُ.
ومع أن الإطراق في البيت الأول، يتعلق بالعين، والإنصات في البيت الثاني، يتعلق بالأذن، إلا أن ما بدا من إطراق العين، وإنصات الأذن، لم يكن ذا بالٍ، لأن القلبَ لم يكن يعمل بالتوجّه نفسه لكل عضوٍ منهما!
تمارس أعضاء البدن وظائفها، لكن تمام أداء الوظيفة، يكون بعمل القلب مع كل عضو من الأعضاء.
(23) أتُرَاهَا لِكَثْرَةِ العُشَّاقِ * تَحسَبُ الدَّمْعَ خِلْقَةً في المَآقِي
وهذا بيت من مطالع قصائد أبي الطيب الحسان، وهو من أبياته الرقيقة في النسيب. والنسيب: هو الغزل.
«إنه ابتداءٌ ما سُمِع مثله، ومعنىً انفردَ باختراعه» ، كما قال أبو الحسن الجرجاني، في (الوساطة بين المتنبي وخصومه).
ومما زاد حُسن استخدام البيت مطلعاً، أنه أشار بالبيت إلى موضوع قصيدته، وزاد ابتكار معنى الحسناء، التي تظن الدموع خلقت في العيون، لكثرة ما ترى بكاءَ أعين العشاق!
والمآقي: جمع مُؤقٍ، وهو مجرى الدُّموع من العين، أي: طرف العين ممّا يلي الأنف.
المعنى: يقول لصاحبه: هل تظن أن هذه الحسناء، لكثرة ما ترى من الدموع في عيون عُشَّاقها، تتوهم أن جريان دموع العيون خلقة، فلا تعبأ ببكاء عاشق، ولا تحِن لسكبه الدموع على حاله معها؟!