يعاتبُنا الزملاءُ المشرفونَ على زوايا المقالات، وصفحاتِ الرأي، إنْ أَسهَبَ كَاتبٌ مِنا، فَزَادَ على عددِ الكلماتِ المحدد لمقالِه. وحقَّ لهم العَتَب، وجَازَ لهم التَحذِيرُ مِن الإِطنَابِ، والتَنذِيرُ مِن الإِسهَاب. وهو منهجٌ صحافيٌّ مهنيٌّ قديم، تضاعفت أهميتُه، وتأكدتْ ضرورتُه، في عصر تكاثرِ تطبيقاتٍ إلكترونية، يزيدُ جَماهِيريتَها، اعتمادُها على الاختصار.
أمَّا مِزاجُ المُتلقي، فيُسَابِقُ سُرعة عَدوِ الحياة اللاهِثة، باحِثاً عَن الزُّبَدِة، نَافراً من الإطالة، رَابِطاً الزِيادَة بِالحَشوِ، وإن لم يَبنِ رَأيَهُ على سَبرٍ، وَتَصَوُرَهُ على عِلمٍ!
ومن تَأمَلَ وَصفَ العربِ للبَلَاغَة، أَدْرَكَ أَنَهُم يُقرِنُونَهَا بِالإِيجَازِ. ففي كتابِه عن إعجازِ القرآن، تَفَنَّنَ أبُو الحسنِ علي الرُّمَّانِيُّ (ت 386 هـ)، في عرض تعريفاتٍ متعددةٍ للإيجاز، تتَّفقُ في وحدَة المعنى، وتجتمعُ في حُسن المَبنَى؛ فاعتبره مَرَة: «تَهذِيبُ الكَلامِ، بما يَحسُنُ بِه البَيَان»، وفي موضع آخر، قال إنَّ «الإيجاز: إظهارُ المعنى الكَثِيرِ، بِاللَفظِ اليَسِيرِ»، وَعَدَّ الإيجازَ في موضع ثالثٍ بأنَّه «البيانُ عن المعنى، بِأَقَلِ مَا يُمكِنُ مِنَ الأَلفَاظِ»، وأَنَّهُ: «تَقلِيلُ الكَلَامِ، مِن غَيرِ إِخلالٍ بِالمَعنَى»، وفي تعريفٍ خامسٍ، قال إنَّ «الإيجازَ: تَصفِيَةُ الألفَاظِ مِن الكَدَرِ، وتَخلِيصُهَا مِن الدَرَنِ». والكَدَرُ: ضِد الصَفْوِ. والدَرَنُ: الوَسَخ.
وأمام بديعِ تعريفاتِ الرُّمَّانِيِّ؛ أتساءَلُ: ما عَسَاهُ يَفعلُ، لو قُدّرَ لهُ، رحمه الله، الوقوفُ على مُطَوَلَاتِنَا، نُطقَاً وكِتابة، حتَى ظَنَّ خَاصتُنَا قَبلَ عَامتِنَا؛ أنَّ إطالةَ الكلامِ مَعرِفَة، وَإِسهَابَ الكِتَابة ثَقَافَة! مع أنَّ غَالِبَ التَطَوِيلِ تَكرَارٌ للمعنى، واجترارٌ للمبنى، وَلَو سُخّرَ لهذه النصوص المُسهِبَة، حَاذِقُ صَنعَة، ضَليعُ لُغَة، لحَذفَ من الكلامِ أَكثَرَهُ، من دونَ إِخلالٍ بالمقصود.
قِيلَ لعبد الله بن عمر بن الخطاب: لو دَعَوتَ اللهَ لَنَا بِدَعَوَاتٍ. فقال: الَّلهم ارحمْنا وعافِنَا وارزقْنَا! فقالَ له رجلٌ: لَو زِدتَنَا يا أبا عبدِ الرحمن، فقال: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الإِسهَابِ.
سألَ معاويةُ بنُ أبي سفيان، صحارَ بن عيَاش العبدي (ت 40 هـ): ما هذه البلاغةُ التي فيكم؟! فأجاب: شَيءٌ تَجِيشُ بِهِ صُدُورُنَا، فَتَقذِفُهُ عَلَى أَلسِنَتِنَا. فقال معاوية: ما تَعُدُّونَ البلاغةَ فِيكُم؟! فَرَدَ: الإيجاز. قال له معاوية: وما الإيجاز؟! فقال صحار: أَنْ تُجِيبَ فَلَا تُبطِئ، وأَنْ تَقُولَ فَلا تُخطِئ. ومِثْلُهُ قول أكثم بن صيفي: «البلاغَة: الإيجاز».
ويَنصُرُ مَذهبَ الزملاء في التحرير، إمامُ اللُّغةِ والشعر، خلفُ الأحمر (ت 180 هـ)، بقوله: «البلاغة: لَمْحَة دَالَّة». واللَمْحُ، وفقاً للراغب الأصفهاني (502 هـ): «لَمَعَانُ البَرقِ. وَرَأَيتُهُ لَمْحَة البرق. قال تعالى: (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ). ويُقَالُ: لأُرِيَنَّكَ لَمْحاً بَاصراً، أي: أَمرَاً وَاضِحَاً». وهو مثل تهديد. والمقصد أَنَّ الأحمرَ عَبَّرَ ببلاغة، عن البلاغَة، فَشَبَّهَهَا بالبَرقِ في ومضته، تأكيداً لإِيجَازِهَا، على أن يكونَ إيجازَاً دالاً، مُستوفِياً بيانَ المعنى. ولأبي هلالٍ العسكريِّ (ت 395 هـ)، تعريفٌ لافِتٌ، إِذ اعتبرَ: «البلاغة: قَولٌ يَسِيرٌ، يَشتَمِلُ على مَعنى خَطِيرٍ». أمَّا ابن رشيق القيرواني (ت 465 هـ)، فجاء بتعريف بديع؛ حين قال: «البلاغةُ: إِجَاعَةُ اللَفظِ، وإِشبَاعُ المَعنَى». والجُوعُ مُفضٍ إلى الضمورِ، كالإيجاز في خفَّتِه ورشاقتِه، والشبعةُ مؤدّيةٌ إلى الامتلاء، ما يعني تكثيفَ المعنى.
والمُصِيبَة، أَنَّ الاختِصَارَ أَصعَبُ صَنعَة مِن الإطنَابِ، وإن بَدَا العَكسُ لمن لم يُجَرّبْ، وَمَن جَرَّبَ عَرَف. يُؤَكِدُ ما سَلفَ أَنَّ ابن المُقَفع، سُئِلَ عن البلاغة؟! فقال: «هي التي إذا سَمِعَهَا الجَاهِلُ، ظَنَّ أَنَّهُ يُحسِنُ مِثلَها». أي: «السَّهلُ الممتَنِع»، بلغة المتأخرين.
ويبدو أنَّ ما يمنعُنا – معاشِرَ الكُتابِ – من الاختصار، فما بالك بالإيجازِ؟ إننا نكسلُ أحياناً عن العودة إلى ما سَطَّرناه، بُغيةَ تشذيبِه، وتهذيبِه، وإمضاءِ مِقَصِ الحَذفِ، على كل ما لا يتأَثَّر بزواله معنى، ولا تنثلمُ بغيابِه عِبارةٌ. والحَقُ أنَّ اختصار النص، بحذف زوائدِه، وإزالةِ تَرَهُلِهِ، يَحتَاجُ صَرَامَةً مع النَفسِ، وقَسوَةً لازِمَة مع النَّص. ولا تتأتَّى هَذِه، وتِلكَ، إلا بتَوَاضُعٍ صادِقٍ يكسو الكاتِبَ، يؤمِنُ معه بأنَّ لا قَداسَة لما يَكتُب، فيُسَهلُ عَمَل المِقَص، وَيُخَففُ أَلَمَ القَصِ، فالعاقِبة رَشَاقَة النص.
ولما كتبت هذا المقال، قلت لنفسي: لا خيرَ فيَّ إِن لَم أَبدَأ بِنَفسِي، فَعُدتُ وَجَاهَدتُهَا حَتى حَذَفتُ أَكثَرَ من 100 كلمة، أوجعتني بداية، ولا أَظُنُّكَ – سَيِدِي القَارِئ – سَتَعلَمُ بِالأَمر، لَو لَمْ أُخبِرْك، وهو دَلِيلُ صَواب الحَذف.
الخُلَاصَة، أَنَّ مَن وُهِبَ الإِيجاز، جِبِلَّةً، أو اكتِسَابَاً، أَدرَكَ الغَايَةَ، وَبلغ المُنيَة، وأَتقَنَ الغَرَضَ، وأَجَادَ الكِتَابَة، وأَحسَنَ الرِوَايَة، وسَلِمَ مِن غَضَبِ المُحررين… وإن شِئتَ دَوَامَ وِدَادِهِم؛ فعَلَيكَ بتجويِعِ اللفظِ، وتَسمِينِ المَعنَى.