ثمة أسماءٌ، تطير بجناحين في سماء الذاكرة، تحلق عالياً بكامل بهائها، وتتوغل في أفقٍ، لا يسهل تتبعه، لاستيفاء حكايتها… في مقال… وإن طال!
ضمن هذه الأسماء، الدكتور هاشم عبده هاشم، الذي مشى في طريق الجحيم مرتين، وعاد منها دون أن تمتلئ جيوبه بالرماد، بل بالخصب، عاد من رحلة بحثه عن ذاته، كالناجي الوحيد من منجم الذهب، وقد امتلك كل المنجم، وما خرج من رحمه، (عنون الدكتور هاشم سيرته الذاتية بـ: «الطريق إلى الجحيم»).
لذلك، لا غرابة أن يعتبر الدكتور عبدالله محمد الفوزان، الأمين العام لمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني: «إن المؤرخ المنصف لمسيرة صحافتنا المحلية، لا يمكنه أن يتجاهل، هاشم عبده هاشم، كرمز من رموز هذه المسيرة المباركة. كما أن الراصد الموضوعي، للرموز الفكرية والوطنية، في مجتمعنا السعودي، لا بد أن يجعل هذا الرجل، في رأس قائمة المبدعين، فكرياً، والمخلصين وطنياً».
أما الدكتور سعيد السريحي، الذي زامل د. هاشم اكثر من عقد من الزمان، في جريدة «عكاظ» فيقول: «من يعرف الدكتور هاشم داخل الجريدة لا يعرفه خارجها.. صارم حازم داخل الجريدة، على نحو يجعل العمل تحت إدارته معاناة، لا يتحملها إلا من يعرف أن وراء ذلك رغبة في التميز، أو من لا يجد بديلا للعمل معه. ولكن من يعرفه خارج الجريدة، يعرفه ودوداً مرحاً محباً صديقاً قريباً من القلب. كان لقاؤنا السنوي في بيته، يكشف لنا الجانب الإنساني في شخصيته، وكانت معاناتنا اليومية معه في الجريدة، تكشف الجانب العملي في تلك الشخصية. كان عاشقاً لعمله عشقاً جعل من إدارته للعمل نموذجاً للمركزية، يتدخل في الصغيرة والكبيرة، يهتم بصفحة القرّاء وصفحة الأخبار الاجتماعية اهتمامه بالصفحة الأولى! يحاسب من يخطئ في كلمة محاسبة من يخطيء في عنوان، لا شيء عنده قابل للتسامح أو التساهل. منضبط لا يقبل عذراً في غياب أو تأخر في الدوام، يتابع كروت الحضور والغياب يومياً وبنفسه، ويحاسب بقسوة بالغة أحيانا من يتأخر عن الحضور في تمام الساعة التاسعة صباحا أو يتخلف عن اجتماع الساعة العاشرة! ولم يكن قاسيا في ذلك على العاملين معه فحسب بل على نفسه كذلك، كان إذا تعرض لعارض صحي أنهى دوامه ثم غادر مباشرة إلى المستشفى، وفِي مرات عديدة كان يغادر المستشفى بعد أيام من التنويم فيها فيحضر إلى الجريدة قبل أن يذهب إلى منزله. ولست أنسى يوم أن تأخر في الحضور إلى الجريدة وكان يتابع معنا هاتفيا الصغيرة والكبيرة ثم علمنا بعد ذلك أن السبب في تأخره استكمال إجراءات دفن ابنه الذي مات غرقا في مسبح البيت»!
لكأنه من قيل فيهم:
ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم * مع البكاة على من مات يبكون
بيد أنّي أدرك أن قلبه يومذاك، يتمتم مع أبي تمام:
مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبق روضةٌ * غداة ثوى إلا اشتهت أنّها قبرُ
ولكن، كيف تشكّل هاشم عبده هاشم، الذي يحكي عنه السريحي، ومن أين اكتسب هذه الجديّة، وكيف استطاع أن يدس لطفه في حزمه، وصبره في كرمه، وكيف تجانس هذا المزيج الصعب لينتج إنساناً يحبه تلاميذه ويشتاقه أصحابه ويخشاه خصوم بلاده ويحظى باحترام قادة بلاده على طول العهود؟
حكمة الأمهات تصنع الرجال
لو كان لصناعة الأهمية مقياس، تتحدد به في كل عصر، ويصطفى على ضوئه الرجال؛ فلن يستطيع أن يحدده غير المهمين أنفسهم، ولا أظن أنهم سيختلفون على أنها تبدأ من كلمات الأم الأولى، ورجُلنا كان مهماً، ولم يكن يدع فرصة تفوت، دون أن يستعيد نقطة البدء، وكلمات والدته، السيدة الفاضلة، صالحة ناصرية، رحمها الله، وهي تخاطب أمها؛ جدته، وتقول: «خلاص هاشم صار رجال ولازم يروح يتعلم». لقد وافقت الكلمة بعمقها البسيط، ساعة من ساعات القدر، وأثمرت في وجدان رجل سيلهم كثيرين بدأبه، وصبره، وإنجازه، مهنياً، وأكاديمياً.
في جازان، جنوب غربي السعودية، ولد هاشم عبده هاشم، سنة 1940، وتهجى حروفه الأولى، في بيت رئيس المحكمة الشرعية آنذاك، القاضي علي، إمام الحي في الستينات الميلادية، حيث أخذته جدته إلى ذلك البيت، العامر بالعلم والفضل.
وفي البيت ذاته، قابل هاشم، معلمته الأولى، ابنة القاضي، فبذرت في نفسه التهذيب، مذ رحبت به، وأجلسته مع أقرانه من الأطفال، خمسة أولاد، وثلاث بنات، أعمارهم بين الثالثة والرابعة، ليس بينهم فاصل، ولا تتغير تجاه جنس منهم لغة خطاب المعلمة الوقورة.
واستمرت جدته تصحبه إلى هذا المنهل المعرفي، وترعى نمو عقله، إلى أن وافتها المنية، فثلم رحيلها، فؤاد الصبي، الذي شب عن الطوق، وما جُبر ألم فراق الجدة، وكانت أقرب إليه حتى من أمه.
لما حان وقت الالتحاق بالمدرسة، حمل هاشماً والده، إلى المدرسة العزيزية، وهي عزيزة، لدرجة أن لم يكن في جازان، مدرسة غيرها.
قضى، هاشم عبده هاشم، المرحلة الابتدائية، يذرع الطريق جنوباً، تتبعه الجبال الرابضة شرق المدينة، والبحر المسترخي جهة الغرب، وعند عودته من المدرسة، يُعَرِّجُ الصبي نحو عمل والده في الميناء؛ موظف المحاسبة بإدارة جمارك جازان، فيقفلان راجعين إلى الدار معاً… رفقة غذّت الفتى اليافع، بتربية أبٍ، كان يتحين الفرص، ليسدي نصيحة هنا، وحكمة هناك، ولا شيء يشرب العلم، مثل عقل صبي، يرى والده قدوة ومثلاً.
إِثر افتتاح المدرسة السعودية، ثاني مدرسة في جازان، انتقل هاشم لها، لإكمال دراسته، واستمرت مواهبه تتبرعم، فمن مشاركاته مع فريق التمثيل، والمسرح المدرسي، إلى علاقته بإذاعة المدرسة، مذيعاً صباحياً، وليس نهاية بعمله محرراً ومشرفاً على الصحيفة الحائطية.
بدت علائم التفوق، في هذا المجال، تظهر على الصبي الدؤوب، وكان كل عمل جديد يقدمه، يُنبت شجرة إلهام، قطافها مزيدٌ من المهام، تُسقيها همة كالغمام.
زيارة الملك سعود تزيد الفتى طموحاً
ومن الأعمال المؤثرة في مسيرته، مشاركته فريق التمثيل المدرسي، في عمل فني، ترحيباً بزيارة، الملك سعود بن عبدالعزيز، رحمه الله، عام 1374هـ(1954).
بدأ صاحبنا، في تلك الفترة، بالكتابة لمجلة (المنهل)، تحت عين ورعاية صاحبها، الأديب الكبير، عبد القدوس الأنصاري، رحمه الله (1906-1983)، فنشر له محاولات قصصية، وأخرى شعرية، وجملة مقالات، مع أنه في ريعان الصبا، طالبا في بداياته، إلا أنه لا حد لطموحه، وخلال تلك الفترة، كان مراسلا لصحيفة (الندوة) المكية، ويكتب في مجلة (الأحد) اللبنانية.
ملامح واضحة، عينان مستديرتان، تتسابقان لاجتياز أفق الإنجاز، كأنهما دائما تحدقان في منارة بعيدة، حيث تتلألأ أضواء الطموح، وابتسامة يظللها حزن شفيف، وهالة من الصرامة، ودأب مكافح جادٍ، يقدم كل عمل، وكأنه الذي يخوض به مسابقة العمر.
إنها محاولة لقراءة ملامح الدكتور هاشم، في صباه، التي تمرد عليها، مسابقاً الزمن لنيل امتياز الرجولة، الذي يخوله للاستمرار في عمل بدأه دون السن القانونية التي تسمح بالعمل ككاتب على الآلة الطابعة، في إدارة الجمارك، كان حينذاك في الرابعة عشرة من عمره، فاضطر لزيادة عمره إلى الثامنة عشرة، للحصول على «حفيظة نفوس»، حفاظا على ذلك الدافع، الذي بذره في نفسه والده، وهو يقول له: «اعتمد على نفسك في العمل… العمل يجعلك رجلاً»، فأدمن العمل وتعددت مهامه وتنوعت أنشطته منذ كان يافعاً. ذاك الطموح، وهذه المقولة التي تحولت نبراساً، جعلت العمل يحمل كثيراً من القدسية لدى الفتى الجازاني الدؤوب. وصار لا يرضى في عمله بغير الصدارة، ولسان حاله، يردد مع المتنبي:
إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ.
قبل صدور نظام المؤسسات الصحافية، انتقل هاشم إلى جدة، ليكمل مشوار العمل في إدارة الإحصاء التابعة للجمارك، ومقرها حي البغدادية الشهير في عروس البحر.
ستكون الظروف مواتية للانقطاع إلى الكتابة وتوسيع مدارك المعرفة، فقد كان عمل الإدارة رؤوماً بالشاب، ما يمنحه وقت فراغ كبير، يستغله في الذهاب إلى الإذاعة، وفيها تعرف إلى الأستاذ بدر كريم، رحمه الله، وبعض المذيعين، حينها.
لسان البلاد يرد… حدث وحديث
تردده على الإذاعة يسّر له بناء علاقات مع العاملين فيها، أمثال بدر كريم، وغالب كامل، ومحمد صبيحي، حينها بدأت مرحلة جديدة من تجربته، فبعد أن كان يحضر إلى الإذاعة زائرا صارت تُسند إليه بعض البرامج، بعد ذلك تطورت علاقته بالإذاعة عبر تقديم برنامج اسمه «دعوة الحق»، وهذا البرنامج ظهر في ظل توتر العلاقات السعودية – المصرية في ذلك الوقت، والهجوم الذي كانت تتعرض له المملكة من الإعلام المصري، على لسان المذيع أحمد سعيد وآخرين، ومثل البرنامج موقفاً سياسياً للمملكة تجاه الأحداث السياسية في المنطقة، كان حينها يبلغ من العمر 18 أو 19 عاماً. تطورت العلاقة أكثر مع الإذاعة لاحقاً من خلال إعطائه برنامجاً آخر اسمه «حدث وحديث»، يذاع بعد نشرة أخبار الثالثة ظهراً ومدته خمس دقائق، وكان يتولى إعداده، ويقدمه بالصوت الأستاذ بدر كريم في البداية، ثم تولى تقديمه المذيع عبدالله راجح.
رغم متاعب العمل الصحفي، وإرهاق المنافسة الشديدة، وتعدد المسؤوليات.. إلا أن هاجس الدراسة لم يفارقه، بل امتلأ برغبة جامحة في مواصلة التحصيل، والتحق بجامعة الملك عبد العزيز، بعد حصوله على الثانوية العامة من مدرسة الشاطئ بجدة، فور سماعه افتتاح قسم جديد للمكتبات والوثائق، حيث وجد نفسه ينغمس من جديد في خضم التحصيل العلمي، ليواصل الدراسة صباحا، ثم يغادر الجامعة ظهرا، متجها إلى جريدة المدينة، حيث يتناول هناك الغداء والعشاء، ولا يعود منها قبل منتصف الليل.
لشغف المهنة… نقض التزامه للوزير
في تلك الفترة أتيحت له فرصة نادرة بمرافقة مدير الجامعة الدكتور محمد عبده يماني رحمه الله إلى لقاء جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز، بحضور معالي وزير التعليم العالي آنذاك الشيخ حسن آل الشيخ، يرحمهم الله جميعا، بعد موافقة مدير الجامعة على مرافقته إياهم باعتباره أحد منسوبي الجامعة، شرط أن ينسى هويته الصحفية تماما.. لكنه تحت ضغط المهنة القاسية نسي الشرط، ووجد نفسه يكتب صفحة كاملة نشرت في اليوم التالي، فقامت الدنيا عليه ولم تقعد..
مسيرة مشوقة تحفز القلم على حرق المراحل والوصول إلى العقدة في قصة معالي الدكتور هاشم عبده هاشم، ففي الحوار الذي أجراه معه محمد الحارثي بمجلة «الرجل»، يقول في معرض حديثه عن بدايته الجادة في العمل الصحفي: «بدأت العمل الصحافي في نهاية عهد صحافة الأفراد، وبداية عهد المؤسسات الصحافية عام 1383هـ (1963م)، وهي فترة شهدت حراكاً ومشكلات كثيرة وشكاوى. كانت الأمور في الصحف السعودية تمضي على سجيتها، فمثلاً صحيفة «عرفات» التي أسسها حسن عبدالحي قزاز، كانت تضم في هيئة تحريرها أعضاء مثل أحمد صلاح جمجوم، وأحمد زكي يماني، ومحمد عبدالقادر علاقي، وعبدالعزيز الرفاعي، ومحمد سعيد العوض، ثم انضمت إليهم مجموعة أخرى كبيرة، منها الشاعر طاهر زمخشري. ولو شئنا أن نعثر على مفتاح شخصيته الصحفية والإدارية، لجاز لنا الانطلاق من هذا التاريخ؛ لأن ما بعده سيكون تتويجا لهذه البداية.
رجل لكل المهام: الطريق إلى «عكاظ»
عبر مشوار طويل حافل بالإثارة، تنقل خلالها الدكتور في مجالات عديدة، فمن التحرير الفني في جريدة المدينة عام 1384هـ ثم التحرير الرياضي، ثم سكرتارية تحرير للشؤون المحلية، لتتوالى بعدها إدارته لعدد من الصحف، منها الرياضي التي أصبح اسمها فيما بعد الشباب، وإدارة تحرير البلاد، ورئيسا لتحرير «عكاظ»، وبعدها تولى الإدارة العامة لنفس المؤسسة، كما مارس كتابة البرامج الثقافية والمنوعة، وكذلك التعليق السياسي في إذاعة تلفزيون المملكة لمدة 6 سنوات، وفي كل الحقول التي مر بها تنمو ثمار المهنية العالية، لا ينقضي الاندهاش من اجتماع كل هذه القدرات الفريدة في إهاب رجل واحد، ولا غرابة أن يحصل على استثناء خاص بشغل عدة وظائف في وقت واحد قبل تعيينه عضوا في مجلس الشورى حيث جمع بين عمله في «عكاظ» وعمله أستاذاً جامعياً، وصدر في ذلك توجيه نقلَه وزير الإعلام الدكتور محمد عبده يماني إلى «عكاظ».
ثم بعد أن عُيّن عضواً في مجلس الشورى، استفاد من وجود مادة في نظام المجلس تسمح بالجمع بين عضويته وعمل العضو، بشرط موافقة وليّ الأمر، وجمع خلال الدورة الأولى بين عضويته في المجلس والعمل الجامعي ورئاسة تحرير «عكاظ» في الوقت نفسه، لكن الأمر كان يستدعي طاقة مستحيلة، فتوقف عن العمل الأكاديمي، وأصبح الاستثناء في الدورة الثانية مقتصراً على عضوية المجلس ورئاسة تحرير «عكاظ».
قائد المجزرة الصحافية
الأحداث الكبيرة التي كانت تهز المنطقة إبان رئاسته لـ«عكاظ» تستدعي رجالاً من طراز رفيع، لا تمر بين أيديهم القضايا دون أن يكون لهم مواقف بحجمها، وفي تاريخ الصحافة السعودية لا يمكن إغفال دور الدكتور هاشم عبده هاشم في تغطية أحداث هامة، لنبدأ بلحظة دخوله «عكاظ» مدججًا بتوجهات واضحة، وعلى دراية بماهية التوجهات والسياسات التي يجب أن تتبعها الصحيفة، دون أن يغيب عن إدراكه، حجم الصعوبات التي ستواجهه بالانتقال بالصحيفة، من توجهاتها السابقة إلى توجهات وطنية، تتفق مع توجهات وسياسات الدولة… لم يكن في الصحيفة وقتها سوى ما يتراوح بين سعوديين اثنين وأربعة، منهم الأستاذ علي مدهش، والأستاذ حمدي باشويه، البقية كانوا من الصحافيين المصريين، المتحمسين للسياسات السابقة القريبة من سياسات بلادهم حينها، ولكي يغيّر سياسات وتفكير ومنهجية صحافية، بجهاز قوي، مؤمن بموقف سياسي واضح، اصطدم بعقبات كبيرة، ولذلك حصل إرباك في الصحيفة، واضطر إلى إنهاء خدمات الكثير من الصحافيين. كان الأمر مجزرة صحافية، قرار اشترك في اتخاذه مع الشيخ علي شبكشي، رحمه الله، الذى رأى أن الأمور لم تكن مناسبة، وتستدعي القيام بتغييرات؛ ولأنه هو من أحضر العاملين في الصحيفة، فقد تولى مسؤولية تسريحهم.
في ذلك الوقت، سافر الدكتور هاشم إلى القاهرة، للتعاقد مع محررين جدد، بدلاً من الذين سرحوا، على أن يكونوا ممن يضمن بهم توافر المهنية والتوازن في العمل، وفوجئ يوم وصوله، بمقال منشور في الصفحة الأولى من صحيفة «الأخبار» المصرية، لجلال الدين الحمامصي، يهاجم فيه صحيفة «عكاظ»، متهماً إياها بتسريح المصريين وإهانتهم، متضمناً تحريضاً شديداً على «عكاظ»!
بحكمة من لم يذهله هول المفاجأة، تظاهر بعدم الاكتراث، ورتب للاجتماع ببعض الزملاء المصريين، بغية استقطابهم للعمل في «عكاظ»، وفي المساء فوجئ بمجموعة من الأشخاص يطلبون منه مرافقتهم، وانتهت الأمور بإبعاده إلى جدة في الليلة ذاتها، من دون توضيح السبب.
تطورت الأوضاع بين البلدين، ويبدو أن الأجواء الصحفية انعكست على السياسة، ثم مرت هذه المرحلة على خير.
صناعة البديل الوطني: صحافة وطنية وفيّة
حينها بدأ بإعادة غربلة جهاز الصحيفة، والالتفات إلى بعض الصحافيين الشبان، حيث نقل مجموعة منهم من «البلاد» إلى «عكاظ». إنها مهمة وطنية تستدعي كفاءة صارمة، والنتيجة كانت مثمرة، فقد زاد عدد توزيع نسخ الصحيفة، وزادت صفحاتها أيضا، بعد أن كانت تسع آلاف نسخة فقط، ولا تزيد صفحاتها على 16 صفحة، أضيفت خطة لتأهيل وتدريب المحررين الشبان الجدد، وكلما ظهرت صعوبات، أمام هذه البداية، ذللتها صرامة هاشم. اجتازت الجريدة مشكلة تغيير الجهاز التحريري، وتغيرت سياستها، وكسبت القارئ، فتوج الجهد الدؤوب بالحصول على ثقة المسؤولين ودعمهم. فتحققت أهم الأهداف الاستراتيجية التي وضعها د. هاشم نصب عينيه للصحيفة، وهي الارتقاء بمستوى مصادر الصحيفة إلى جهات اتخاذ القرار في الدولة باعتبارها خطوة مهنية أساسية ومحورية، واختيار عناصر سعودية للعمل التحريري الميداني… مع التركيز على الاهتمام بالقصة الخبرية، والتحقيق الصحفي الحي.. والتفاعل مع الناس، في شؤون حياتهم، حيث كانت.
آمن الصحافي مذ صباه، والرجل الأكاديمي، بأن العمل الصحفي الناجح لا بد أن يرتكز إلى تخطيط واضح، وبنفس القدر من الأهمية يعتمد على الوسائل والأدوات المنفذة للخطط المرسومة.. وفي مقدمة هذه الوسائل توفر الكفاءات البشرية الموهوبة أولا، والمجربة ثانيا، والمستعدة لاكتساب التجربة ثالثا، والمتفانية في العمل والمخلصة للمهنة إلى حد الذوبان فيها، ونسيان غيرها من الاهتمامات، وجعلها الأولوية الوحيدة، لا رأس قائمة الأولويات!
من الطبيعي، أن يشتكي كل من يعمل مع رجل بهذه القناعات، إذا لم يشاطره ذات الإيمان بها، أو تجبره ظروف الحياة، على الاستسلام لرجل ربط والده له الرجولة بالعمل، فلم يمل ولم يكل وهو يعمل، ويجعل من معه يعملون مثله!
كما كان هاشم، يؤمن بأن القارئ في المملكة العربية السعودية، يميل إلى التغيير والتجديد والتطوير المستمر، مع أن كثيراً من المدارس الصحافية، تعتبر التغيير المتكرر، يسهم في عدم خلق هوية للصحيفة، ويشوه الصورة التي يمكن أن يرسمها القارئ لجريدته!
جرب الدكتور هاشم نظريته، فارتفع التوزيع، وزادت العوائد، نظر إلى النظريات الصحافية نظرة من كسب الرهان، وقال لها التغيير يجعل الصحيفة أكثر جاذبية!
كان ضمن هذا التغيير أن «عكاظ» التي حققت بشهادة الأرقام التي لا تكذب، نجاحات كبرى، أكثر الصحف السعودية استخداماً لمنهج الإثارة الصحافية. ثار بعض المدافعين عن الرزانة، ارتفعت الأرقام، والأرباح، بعث لهم الدكتور هاشم، رسالة مفادها يكفي الجريدة رصانة رئيس تحريرها، طالما تنتصر لمدرسة (القارئ عاوز كدا).
الحقيقة، أن الدكتور هاشم، خلق صلة عميقة بين القارئ والجريدة، وأقبل المسؤول يبحث عن القارئ، فخلق علاقة قوية مع «عكاظ».
حافظت الجريدة على توازن بين أطراف العلاقة، القارئ والمسؤول، نتيجة خلاصة تجارب وذكاء الدكتور هاشم، الذي أمسك العصى من المنتصف، وكأنه يريد أن يستعرض قوته في ميدان رقصة مزمار.
مرحلة جديدة… وأولويات جديدة… واستقالة!
ولما شعر بانتهاء ما خطط له في تلك الفترة، وتحولت المخططات إلى إنجازات.. بدأت الرغبة تراوده لتخفيف العمل، والاكتفاء بوظيفتين بدلاً من ثلاث: رئاسة التحرير، والتدريس الجامعي، وعضوية مجلس الشورى.
كان قد بدأ عمله في رئاسة التحرير بجريدة «عكاظ» في مطلع العام 1401هـ، وجاء بعده بشهرين الأستاذ إياد مدني مديرا عاما للمؤسسة، ثم عاد الدكتور هاشم إلى قواعده بتحرير الجريدة في الوقت الذي أصبح فيه إياد وزيرا للإعلام. ورغم تعاونهما كثيرا في مراحل مبكرة لانطلاق المؤسسة إلا أنهما اختلفا حد الصراع احياناً، ومن حسن الحظ أن هذا الخلاف، لم ينعكس سلباً على الأرباح، فلم يشغل الخلاف الملاكَ كثيرا، إذ اعتبروا للبيت ربا يحميه!
جمع الدكتور هاشم بتفرد في الصحافة السعودية، بين منصبي المدير العام للمؤسسة ورئيس تحرير «عكاظ» بداية من شوال 1416هـ، وفي الثامن من صفر 1423هـ، ترك منصب المدير العام، وبقى رئيسا للتحرير، وبدأ يفكر جديا حينها في ترك العمل الصحفي كله، ولم تنضج الفكرة إلا بعد 5 سنوات أخرى، عندما اختار غرة محرم من عام 1428هـ لترك رئاسة التحرير، والخلود إلى الراحة، والاكتفاء بكتابة زاوية صحافية لصحيفة الوطن، قبل الانتقال منها إلى صحيفة الرياض، والتفرغ للقراءة وكتابة بعض الكتب، أحدها سيرته الذاتية، التي توشك أن تظهر في المكتبات خلال أسابيع.
عودة بأمر ملكي
في يوليو 2011، أُبلغ الدكتور هاشم، بأن الملك عبدالله، وجه بعودته إلى رئاسة التحرير، والتعاطي مع مشكلة نشأت وأثارت غضب أهالي منطقة سعودية.
إنه يحب كل ما يعمله
ليس على مجداف الحديث عن حكاية الدكتور هاشم أن الاكتفاء بالصحافة فقط، ففي المحيط ضفاف ثانية، منها الجانب الأكاديمي، الذي لم تصرفه محبة الصحافة، عن منحه حقه من المحبة، إذ يعتبر أن متعته بالعمل الأكاديمي، لم تكن أقل من استمتاعه بالعمل الإعلامي.. فساهم بمناقشة البرنامج الدراسي لقسم المكتبات والمعلومات بجامعة أم القرى، وتأهيل الكوادر البشرية المتخصصة فيها، كما شارك في اللجنة التحضيرية لتأسيس المكتبة العامة بجدة، والمشاركة في التخطيط لإقامة أول مكتبة وطنية للمملكة بالرياض، مع مراحل تأسيسها الأولى… و نشر أبحاثاً عن تنمية ميول الطفل السعودي للقراءة، ومستقبل المكتبات المدرسية، وصناعة النشر بالمملكة…
الشيء من معدنه لا يستغرب
يتذكر الدكتور أنه كان يقضي صباحاً باريسياً رفقة زوجته وأولاده، فإذا بهاتف يبلغه، نبأ رغبة الملك فهد، رحمه الله في ترشيحه لعضوية مجلس الشورى، ورغم شعور الارتباك والامتنان على حد سواء، إلا أنه استجمع عبارته وقال للمتصل: «هذا شرف كبير لي أن أحظى بثقة طويل العمر.. وأن أكون عضوا في أول مجلس للشورى في عهده المجيد».
بعد أدائه للقسم، تقدم نحو الملك فهد للسلام عليه، فقال له يرحمه الله: «مبروك.. والله يوفقك، ونراك في المجلس كما عهدناك في الإعلام».
في بلد غني برجاله، يصعب أن يقع الاختيار على ستين شخصاً من بين مئات، بل آلاف الأكفاء من أبناء هذا البلد، لكن كان عليهم أن يختاروا من يعلقون عليهم آمالا كبيرة في خدمة وطنهم ونفع بلادهم. أطالع هاشم عبده هاشم، ومسيرة ثرية، فلا أرى إلا رجلاً لم يركن إلى الدعة يوماً، وكان حب الوطن، ديدنه في كل مجال، فبوركت مساعيه.