أحدثكم اليوم، أيها الكرام، عن رجلٍ من صُنَّاع الدولة الحديثة في السعودية، حيث تَقَلَّب في المهمات، وَتَقَلَّدّ المناصب، كَأَنَما يَصَّعَدُ الدرجات تطوراً، حائزاً ثقة خمسة ملوك: الملك فيصل، الملك خالد، الملك فهد، الملك عبدالله، رحمهم الله، كما أنه عرف الملك سلمان جيداً منذ كان أميراً للرياض.
هُوَ رُبّان التخطيط، مهندسُ خمسَ خططِ تنميةٍ، خمسيةٍ (نسبة لسنوات كل خطة). وهي الأساس الذي بُنيت عليه أركانُ السعودية، مذ كانت فتية ناشئة، حتى شَبَّت عن الطوق.
قبل سنوات، وخلال جلساتي الطويلة معه، بدى هشام ناظر، رحمه الله، كمن يعيدُ روايةَ حياته بشغفِ العاشق، مُطوِّعاً صوتهُ الهادئ، ولَهجَتِهِ الجِدَّاوِيَّةِ المميزة، ناقلاً عواطفه وتجاربه، مستحضراً سيرتِه ومسيرته، طفولته وشبابه وكهولته، متحدثاً بشفافية إنجازاته وإخفاقاته… عذاباته وأفراحه.
كانت روايات ناظر تُضيء حاضرِ البلادِ ومستقبلها، بشُعاعِ ماضٍ كان أحد رجالات صناعته. ماضٍ، كانَ هشام عُكّازُ الذين عاشوه، إرادة غالبة بلا سقفٍ ولا سِيَاجْ.
ناظر، المولود بجدّة عام 1932، والوزير في الحكومة طيلة 27 عاماً متواصلة، حامل الحقائب الوزارية المتعددة، المُكَلّف من الملوك المتعاقبين، بملفاتٍ ثقيلة وحسّاسة، بَلَغَ مراتبه، لأنه تمسك بحُلُمٍ كان يأبى أن يغفو دون تحقيقه. ركض خلفهُ، ليقطفهُ ثمراً يانعاً، بعد حرثٍ وزرعٍ وري.
هذا الحلم هو التعلم في أفضل الأماكن المتاحة، حسب الظروف. أسهم والد هشام، محيي الدين ناظر، في خلق فضاءات لأولاده تغرس فيهم حب المعرفة، ليتعلموا ويجتهدوا وينجحوا، فأرسلهم إلى «مدرسة الفلاح»، أو (هارفرد جدة)، كما يسميها الدكتور عبدالله دحلان.
درس هشام القرآن الكريم، والإملاء، والحساب، العلوم الأساسية آنذاك. إدراك والد ناظر لقيمة التعلم، دفعه ليلزم أولاده حضور دروس خاصة في اللغة الإنجليزية.
بعد «الفلاح»، تابع هشام ناظر، مسيرته التعليمية، فسافر عام 1948 للدراسة في كلية فيكتوريا بالإسكندرية، وكانت ملتقى النخب العربية، حينها. بعد ست سنوات عاد لجدّة، بنجاحٍ منحه تأشيرةَ الانتقال للجامعة.
لم تكن رحلته الجامعية، مُشْتَهىً سهلَ القطف، بل شابتها عثراتٌ، رفضَ أَن تُكَبِلُهُ بقيود اليأس. أوشك الوالد على بيع منزلهم، ليوفر مصاريف دراسة ابنه بالولايات المتحدة، ورفض هشام الاستسلام لتلك المعادلة الصعبة، واقترح على والده، أن يزور الأمير فيصل بن عبد العزيز، ولي العهد آنذاك، فذهب الشابُّ اليافعُ للقاء الفيصل، الذي كان وحيداً في مجلسه، وشرح له أن درجاته تؤهله لبعثة، لكنه لم يحصل عليها! «إذا كان كلامك صحيحاً، فستكون أولَّ المبتعثين»، أجابه الأمير، وهو ما حصل.
بعد أيام غادر هشام ناظر إلى نيويورك، وكان قد تأخرَّ عن مواعيد التسجيل، فارتحل لجامعة «تشيكو» شمال كاليفورنيا، حيث كان يدرس بعضُ صحبه، أنس ياسين، وحسان ياسين، وطاهر عبيد. فحضر المحاضرات معهم ضيفاً، لا طالباً مسجلاً، ثم سافر لجامعة كاليفورنيا، بلوس أنجلوس، لحضور مؤتمر طلابي. ذُهل ناظر بالجامعة، وسجّل بها فوراً، ليبدأ مشوار الدراسة، فحصل على «بكالوريوس» العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بمرتبة الشرف، ثم نال «الماجستير» بالتخصص نفسه، خلال ثمانية أشهر، في 1958، ليعود لبلاده، مؤهلاً لخدمتها.
بحكم تخصصه، قصد وزارة الخارجية، بحثاً عن وظيفة، فواجهته أولى العثرات: لا وظائف شاغرة!
لم يصبه الوهن، واستعان بالصبر، امتثالاً لقول الشاعر:
لا تحسَبِ المجدَ تمراً أنتَ آكلُه لن تبلغَ المجد حتى تلعَق الصَّبرا
أول وظيفة بـ1500 ريال!
في العام ذاته، تلقى ناظر اتصالاً من الشيخ عبد الله الطريقي (ت 1997)، المدير العام لشؤون الزيت والمعادن، آنذاك، (أول وزير بترول سعودي بعدها). الطريقي وقعت عينه على تهنئة بنجاح هشام، نشرت بالجريدة، فعرض على هشام وظيفة، فوافق. وعُين براتب 1500 ريال.
بعد أشهر عُقد مؤتمر البترول العربي الأول بالقاهرة، فشارك هشام ضمن وفد بلاده برئاسة الطريقي. جمع المؤتمر لأول مرة، الدول المنتجة للنفط، ومنها فنزويلا، مع الشركات المنتجة، وكان منبراً أوصلت المملكة فيه صوتها وبرامجها واستراتيجيتها المتعلقة بالنفط، وأثمر، بحسب ناظر، اتفاقاً مبدئياً على تأسيس «أوبك»، التي أرادتها الدول منظمة تواجه عبرها شركات الإنتاج.
عام 1960، قرر الشيخ الطريقي، أن يرسل هشام إلى فنزويلا، ضمن تأهيل الكوادر الوطنية نفطياً، فتوسعت معرفته بالشؤون النفطية. كانت جهود السعودية بقيادة الطريقي لا تتوقف لتحقيق أهدافها، فانعقد مؤتمران، الأول بفنزويلا، ووضع أساس «أوبك»، والثاني في بغداد، وأُعلن فيه تأسيس «أوبك»، وشارك ناظر بالمؤتمرين.
في 1961، عينت السعودية هشام محافظاً لها في «أوبك». من موقع المفاوض والعارف والمسؤول والمحافظ، ولاحقاً الوكيل فالوزير، يعتبر ناظر «أوبك»، لم تستطع حينها القيام بواجباتها، إذ لم تستطع رفع الأسعار سنتاً واحداً، طوال عشر سنوات!
عُيِّن هشام عام 1962 وكيلاً لوزارة البترول والثروة المعدنية، وشملت مهامه، التحضير التدقيق لملفات التفاوض مع الشركات، بالإضافة لإدارة شؤون الوزارة، التي كان وزيرها، آنذاك، أحمد زكي يماني، مشغولاً بالاستراتيجيات النفطية.
شارك هشام ناظر بمؤتمري بغداد والخرطوم الذين عُقِدَا إثر هزيمة 1967، واحتلال الضفة وسيناء والجولان. عرض ناظر رؤيته، قائلاً: «موقف المملكة ودول الخليج، كان متوافقاً مع مواقف دول أخرى، منها تونس والمغرب، معتبراً قرار وقف تصدير النفط، لمواجهة العدوان، فيه ضررٌ على المنتج والمستهلك، لكن الضرر على المُصَدِّر أكثر من المستهلك. كانت الدول العربية تعاني آنذاك خلافاً حاداً، سببه قناعة البعض بأن بين هذه الدول من قادنا إلى كارثة، وليس لمن كان سبباً في صنع الكارثة، أن يُملي على من لم يساهم بالكارثة، الطريقة المُثلى للمواجهة».
يقول هشام إن الملك فيصل، تبرع خلال قمة الخرطوم، لدول المواجهة، فوق ما تحتمله ميزانية المملكة. توصية ناظر أن تتبرع بلاده بما يتراوح بين 5-10 ملايين دولار. لكن الفيصل أعلن تبرع بلاده بـ 55 مليون جنيه إسترليني، علماً بأن إجمالي دخل المملكة تلك السنة يقارب 900 مليون دولار!
قيادة التخطيط 18 عاماً!
بعد نشاط هشام ناظر السابق، عُيِّن رئيساً للهيئة المركزية للتخطيط، بمرتبة وزير في 1968.
أدرك صاحبنا أن تعيينه حصل يوم كانت المملكة بلداً متواضع الدخل، ولا يؤمن بالتخطيط، ولا بخطة خمسية، ولا بِورشِ عمل. حدد هشام هدفاً، وأعلن عنه بوضوح: «لقد أتوا بي إلى موقعي هذا من أجل وضع خطة تنمية… ولأنهم فعلوا ذلك، فستكون هناك خطة تنمية».
مواكبة لطموح الملك فيصل، قرر هشام الاستعانة بفريق منظم ومدرب، فزار أعرق جامعات أميركا، ليستعين بعد دراسات، بفريق بحثي من معهد «ستانفورد للبحوث»، وفريق من جامعتي «هارفارد» و«MIT»، لمراقبة الفريق البحثي.
قاد صاحبنا فريقه، لتقديم خطط تنمية كاملة أو جزئية للوزراء والمسؤولين بشكل دائم، والتقوا مجاميع مختلفة من المواطنين لإطلاعهم على الخطط. واستخدم الظهور في وسائل الإعلام السعودية، شارحاً للناس الأفكار وعمل خطط التنمية.
إثر قناعة الملك فيصل، ترأس جلسة لمجلس الوزراء بالطائف عام 1970، معلناً خطة التنمية السعودية الأولى لشعبه.
عام 1975، حولت الحكومة الهيئة المركزية للتخطيط، لتصبح وزارة التخطيط. وصدر أمر ملكي بتعيين ناظر وزيراً للتخطيط.
قدم هشام ناظر خمس خطط خمسية، لم يَدَّعِ بلوغها الكمال، ولكنه لم يطعن بجدواها، ولا قلل من جهده وفريق عمله في إعدادها، ومتابعة تحقيق ما أمكن منها، خلال 18 عاماً، مدة عمله وزيراً للتخطيط.
يُشير ناظر إلى أن لكلِّ خطة ظروفها، وأنها حققت بشكل أو بآخر الكثير من أهدافها، مثل: تعزيز القيم الأخلاقية السعودية، واستغلال الموارد الطبيعية للبلاد إيجابياً، ونشر التعليم، وبناء المدارس، وتأهيل القوى العاملة، والمحافظة على الصحة العامة، وتهيئة أكبر قدر ممكن من التجهيزات الأساسية في قطاعات النقل والكهرباء والمياه والإسكان، وإطلاق الصناعات المعتمدة على الطاقة، ودعم القطاع الخاص وتشجيعه، بإنشاء صناديق الإقراض المتخصصة…
عرّاب المدينتين الصناعيتين
خلال عمله وزيراً للتخطيط، كُلَّف هشام عام 1975، نائباً لرئيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع، وكان يرأسها آنذاك، الأمير (الملك) فهد بن عبد العزيز.
يقول غازي القصيبي، يوم كان وزيراً للصناعة، في محاضرة بجامعة البترول: «إن فكرة إنشاء الهيئة الملكية للجبيل وينبع هي فكرة هشام ناظر وليست فكرة أي أحد سواه». هذه «الهيئة» صنعت مدينتين صناعيتين بالجبيل (تقع على الساحل الشرقي)، وينبع (تقع على الساحل الغربي)، ضمت المشاريع الصناعية الضخمة، التي كانت أساساً للتفوق السعودي في صناعات البتروكيماويات ومشتقاتها. يُكرر هشام ناظر عند الحديث عن منجزات الهيئة الملكية للجبيل وينبع، الدعم غير المحدود من رئيس «الهيئة»، الأمير فهد بن عبدالعزيز، ودور أعضاء مجلس الإدارة، وجهودهم، وخبراتهم التي أثرت الجهد، ورقابتهم المهمة على سير العمل، ومنهم: غازي القصيبي، ومحمد أبالخيل، وفايز بدر، وخالد التركي… وجهوداً جبارة لغيرهم مثل: د. جميل الجشي، الذي كان اليد اليمنى، لهشام في تلك المهمة.
بعد سنوات، بدأت القناديل تُضيء لتُظهر طيف المشروع البهي، بافتتاح مدينة الجبيل الصناعية، «التي لم تعد تسترخي ناعسةً على شطِّ الخليج»، كما وصفها ناظر، ومن بعدها ينبع الصناعية. كان هشام يرى في مدينة ينبع حاجة ضرورية لاكتمال الفكرة والمشروع، وتحقيق الأهداف من الناحية الاستراتيجية، وبأن مدَّ خط الأنابيب بين المدينتين، يؤسس منطقة تكون رديفاً ضرورياً للمنطقة الشرقية، يُصَدِّرُ البترول حال وقوع أي أزمة بمنطقة الخليج.
معركة أسعار البترول
في 1986 صدر أمرٌ ملكي بتعيين ناظر وزيراً للبترول بالنيابة، إضافة إلى مهامه السابقة. ويروي ناظر للكاتب، أن الملك فهد، اتصل به بعد التعيين، وعندما سأله عنه، أجاب الوزير مليكه قائلاً: لا رأي أمام أمركم، وسأبذل وسعي للقيام بمهام التكليف – التشريف.
إثر تعيين ناظر وزيراً للبترول، وصفته صحيفة «نيويورك تايمز»، بأنه: «الرجل المهذب والممثل المحنك لبلاده». الملك فهد، أكد لناظر، ثقته بقدراته، وطالبه بدعوة «أوبك» للعمل على تحسين أسعار النفط، فوعد الوزير ببذل كل جهد، لتحقيق الرغبة الملكية – الوطنية.
بعد أشهر مضنية، ورحلات ونقاشات، وقممٍ بأبوظبي والإكوادور وجنيف، حقق ناظر إنجازاً، بالاتفاق مع «أوبك» على تحديد 18 دولاراً، سعراً للبرميل، ثم عاد هشام للجبيل ليشهد افتتاح الملك فهد أحد مشاريعها، وهناك قال الملك للصحافيين: «أود أن أهنئ وزير البترول، وخلينا نشيل بالنيابة»، فصار ناظر وزيراً أصيلاً للبترول، وكان أول تعيين لوزير يُعلن بتصريح صحفي، قبل صدوره بأمر ملكي مكتوب.
في 1995 خرج ناظر من الوزارة، بعد 38 عاماً في الخدمة العامة، منها 28 عاماً وزيراً بمهام وحقائب مختلفة.
سفيراً بحجم أهمية مصر
عام 2005 عيَّن الملك فهد، هشام ناظر سفيراً للسعودية بمصر، فصرّح الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي السابق، قائلاً: «مصر دولة كبيرة ومهمة، لذلك بعثنا لها سفيراً بحجمها، هشام ناظر». واستمر سفيراً حتى 2011، فانفتح على كل التيارات السياسية والثقافية، وضمن جهوده أسس «مقعد الأربعاء»، ليكون صالوناً يجمع كل أطياف المجتمع المصري، كل أسبوع في حوار شمل كل المجالات، بسقف نقاشٍ مرتفع، وصار مقصداً للنخب المصرية، التي اكتشف معظمها السعودية بشكل جديد.
توفي هشام ناظر، عام 2015، بعد أن عاش «حياةً حافلة وغنية تعكس قصة نجاح لرجل استثنائي، قضى جُلَّ عمره يتنقل من منصبٍ إلى منصب، ومن مهمةٍ إلى أخرى، بكل أناقة، وبكل جدارة، وبكل نجاح»، وفقاً للكاتب حسين شبكشي.
يقول طَل بن هشام ناظر: «ربّانا والدي على أن القيّم ليست موضع نقاش. عندما أتذكره رحمه الله، يقفز في ذهني إصراره على أهمية القيّم، وأتذكر إيمانه بأن القيّم تصنع الصواب». أما مُضَر هشام ناظر، فيقول: «ما زلت أتعجب من الطريقة التي كان الوالد يتعامل بها مع الناس، فيشعُر كل شخص أنه أهم الناس بالنسبة لهشام ناظر»!.
هشام ناظر في سطور:
. 1958 عُيِّن في أول وظيفة له بالمديرية العامة لشؤون الزيت والمعادن، وأُرسل 1960 إلى فنزويلا لتحصيل المزيد من العلوم المختصة بالبترول.
. 1962 عُيِّن وكيلاً لوزارة البترول حتى 1968.
. 1968 عُيَّن رئيساً للهيئة المركزيّة للتخطيط، بمرتبة وزير.
. 1970 أصدر خطّة التنمية الأولى، وصادق عليها مجلس الوزراء برئاسة الملك فيصل.
. 1971 عُيَّن وزير دولة وعضواً في مجلس الوزراء، مع رئاسته للهيئة المركزية للتخطيط.
. 1975 صادق مجلس الوزراء على الخطة الخمسية الثانية التي رفعتها هيئة التخطيط برئاسته.
. أكتوبر 1975 عُيِّن ناظر أولَّ وزير للتخطيط بالسعودية.
. نوفمبر1975 عُيِّن نائباً لرئيس الهيئة الملكية لـ «الجبيل وينبع».
. 1986 عُيِّن وزيراً للبترول بالنيابة، مع احتفاظه بموقعه وزيراً للتخطيط.
. 1988 عُيِّنَ رئيساً لمجلس إدارة شركة (أرامكو)، وهو أول سعودي يرأس مجلس إدارتها، فعمل على تحويل (أرامكو) إلى شركة سعودية 100%.
. 2005 عُيِّنَ سفيراً للسعودية لدى مصر، حتى 2011.
. له من الأبناء: جواهر، لؤي، طَل، فِهر، ند، مُضَر.
*السفير السعودي لدى الإمارات.