في كتابه «المتميزون، قصة النجاح»، يقرر الكاتب الأميركي الشهير، مالكوم غلادويل، قاعدة لافتة للنظر، أثبتتها الإحصائيات، وهي أن الطلبة القادمين، من دولٍ تشتهر بزراعة الأرز، يتفوقون دائماً، في المسابقات الدولية، في الرياضيات. ويُرجع مالكوم غلادويل السبب في تفوق هؤلاء القادمين من بلدان الأرز، إلى أنهم قادمون من ثقافة لا يفلح فيها المرء، ما لم يبذل الكثير من الجهد، فزراعة الأرز عملية شاقة، وتستمر طوال العام، ولا بد للأرز أن يُغمر بالماء، وأن يُنقّى من النباتات الطفيلية، والجهد الذي يُبذل فيه كبير، فلا يبلغ الناس لقمة عيشهم، إلا بعد مكابدة ومراغمة. ولذلك، فإن الطالب القادم من دول الأرز إلى أميركا، يبذل في الدراسة جهداً أكبر من الجهد الذي يبذله زميله الأميركي، فهو يمضي وقتاً أطول في المكتبة، ووقتاً أطول في المذاكرة، ولا يقرر أن ييأس من المعادلة الصعبة في مسابقة الرياضيات، قبل أن تمضي عليه خمس دقائق من المحاولة، أما زميله الأميركي، فسوف يمل في أقل من ثلاث دقائق. الدقائق الخمس من الصبر والتأمل، تضيء طريق الحل أمام هذا الطالب، المعتاد الكد والكدح، فيحل من المسائل، أكثر مما يفعل زميله الأميركي.
قرأت هذا الكلام، فتذكرت قول النبي، صلى الله عليه وسلم: «والصبر ضياء»! وأجمل بأبي تمّام حين قال:
قلّوا ولكنّهم طابوا فأنجدهم * * * جيش من الصبر لا يحصى له عدد
خطب عمر بن عبد العزيز، فقال: ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه من ذلك الصبر إلا كان ما عاضه الله أفضل مما انتزع منه. واعتبر الجاحظ، أن الصبر يورث البُرءَ، وأن الجَزَعَ يُورِثُ السَقَم، وبِالسَقَمِ يكون الموت، وبالبُرء تكون الحياة. وقيل: إن أفضل بيت قالته العرب في الصبر على النوائب قول دريد بن الصّمّة:
قليل التّشكّي للمصيبات حافظ من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
ونحن يا سادتي، نعيش خدعة كبيرة، تهوّن علينا من شأن الصبر، وتقلل من جدواه في عيوننا، تلك هي خدعة الشيخ google الذي لا يسأله المرء عن شيء إلا عاد بالجواب كلمح البصر، ونحن صرنا نرى الوصول إلى المعلومة يستغرق جزءاً من الثانية، فصرنا نحسب الأمور كلها ينبغي أن يُوصل إليها في جزء من الثانية أيضاً، وصار الصبر عملة نادرة، والبطء فضيلة لا يرغبها أحد.
ولا تخلو حياة أحد، من أشياء تقتضي الصبر، فما من واحد منا إلا وله في حياته أمور كان يرجوها، لكنها فاتت، ولا سبيل إليها.
لا تطل الحزن على فائت
فقلما يجدي عليك الحَزَنْ
سيان محزونٌ على فائتٍ
ومضمرٌ حزناً لما لم يكن
وليس من كمال العقل، أن نحزن، على فوات أمر، قد يئسنا من حدوثه، وتأكدنا أننا لن ندركه. ولا تخلو حياتنا، من أشياء مكروهة، نتوقع أن تحصل، ونترقب أن تحدث، وقد يكون هذا المتوقع شيئاً كبيراً، وقد يكون هيناً، ولكن الصابرين وحدهم هم الذين لا يستعجلون هموم الغد إلى اليوم.
قال الحسن البصري: «لا تحملنّ على يومك همّ غدك، فحسب كل يوم همومه». كما لا تخلو حياة أحد منا من أمر سار يرجوه، أو خبر مبهج يتوقعه، تتحسن معه الأوضاع، وتزول بعض المصاعب، و«من صبر ظفر»، كما يقول حكيم العرب أكثم بن صيفي.
إن الأمور إذا انسدت مطالبها
فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبةٌ
إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
وما منا من أحد، إلا انطوت حياته، على لحظات عسيرة، ومواقف صعبة، وفي مثل هذه المواقف، يقول عثمان بن عفان:
خليلي لا والله ما من مصيبة
تدوم على حي وإن هي جلّتِ
فإن نزلت يوماً فلا تخضعن لها
ولا تكثر الشكوى إذا النعل زلتِ
فكم من كريم قد بلي بنوائب
فصابرها حتى مضت واضمحلتِ
وكم غمرةٍ هاجت بأمواج غمرةٍ
تلقيتها بالصبر حتى تجلتِ
ويحكى أن هارون الرشيد (ت 193هـ) حبس رجلاً، ثم أرسل إليه من يتفقد حاله، فقال السجين للرسول: قل له: كل يوم يمضي من نعيمك، يمضي من بؤسي مثله، والأمر قريب، والحكَم الله تعالى.
لو أن ما أنتمُ فيه يدومُ لكم
ظننت ما أنا فيه دائما أبدا
لكن رأيت الليالي غير تاركة
ما سر من حالةٍ أو ساء مطّردا
فقد سكنتُ إلى أني وأنّكمُ
سنستجد خلاف الحالتين غدا
ومما يعيننا على الصبر، يا سادة، أن نعلم، أن في الناس من أصيب، بأكثر مما أصبنا به، وأن الحال، مهما تكن سيئة، فهناك ما هو أسوأ منها، وما لا نرى مما يقي الله أكثر! وهذه هي الحياة، نعم زائرة، وزائلة، وأمور ثابتة، مآلها إلى انقضاء، والألم، جزء من نسيج الحياة، ومحاولة الحياة بلا ألم، أمرٌ مدمّر لنسيج الحياة، ومخلخل لبنيانها.
والمؤمن يرجو أن ينال أجر الصابرين، على كل بلاء يصيبه، ولا يسلم ذو النعمة من حاسد ينفس عليه، ولا كائد ينصب له الشراك..
محن الفتى يخبرن عن فضل الفتى
كالنار مخبرةٌ بطيب العنبر!
وقد قيل في القديم: من عرف الدنيا وتقلب أحوالها، هان عليه بؤسها ونعيمها. وقيل أيضاً: من توقّع، لم يتوجّع! ومن لم يأخذ نفسه بالسلوان والصبر، كان نصيبه الجزع والتسخط، والانهيار والضياع.
ويعين المرء على الصبر: ألا يثير كوامن الأوجاع، باستدرار الدموع، وشدة الحسرة، والإخلاد إلى الأسف، والإدمان على الشكوى، واليأس من الفرج.. وما كان أعظم فهم أبي الحسن التهامي (ت 416 هـ) حين قال في رثاء ولده، أبياتاً، يصح أن يخاطب بها، كل واحد منا، فيها تذكار، وحكمة، وسلوان، وصدق بالغ..
حكم المنية في البرية جاري
ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً
حتى يرى خبراً من الأخبارِ
طبعت على كدر، وأنت تريدها
صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها
متكلف في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما
تبني الرجاء على شفير هار
فالعيش نوم، والمنية يقظة
والمرء بينهما خيالٌ سار
فاقضوا مآربكم سراعاً، إنما
أعمارنا سفر من الأسفار!
*السفير السعودي لدى الإمارات.