وجه زميلنا غسان شربل، رئيس تحرير “الحياة” سهام حسده السبت الماضي إلى صحيفة “بيلد” الألمانية التي تخلت عن حصتها اليومية من أخبار الجريمة والفساد والشر، ولم تنشر سوى الأخبار المبهجة في عددها الصادر في عيد الميلاد يوم الجمعة الماضي.
واعتبر شربل أن من حق أي صحافي عربي أن يحسد صحيفة “بيلد” الألمانية حين يعرف أن عدد قرائها يزيد على 12 مليون شخص، فالرقم يكاد يعادل عدد سكان دولة عربية متوسطة الحجم. وبديهي أن يتذكر الصحافي أن عدد الأميين في العالم العربي يزيد خمس مرات عن عدد قراء الصحيفة الألمانية. ثم إنه من الطبيعي أن يحسد الصحافي العربي صحيفة ألمانية لمجرد عدم اضطرارها إلى المرور في محاكم الرقابة ولعدم قدرة السلطات الألمانية على تنغيص عيش الصحيفة والصحافيين والأعداد لمجرد نشرها نبأ يزعج أو يغضب أو يفضح. ومن حق رؤساء تحرير الصحف العربية أن يحسدوا رئيس تحرير “بيلد” على قراره الجريء إصدار عدد خالٍ تماماً من الأخبار المؤلمة أو الحزينة. “ففي مناسبة الميلاد أصدرت الصحيفة أمس عدداً لم تنشر فيه إلا الأخبار السعيدة، مسقطة من حسابها أخبار الجريمة والفساد والشر”.
نحن العرب مساكين، فحتى عندما أردنا أن نحسد الغرب تذكرنا سوادنا أمام بياضهم، وها هو الأستاذ شربل يتحدث أمام فكرة مبهجة عن أمية مغرقة، وحرية صحافية مصادرة، وهو ما أتاح الحديث عن فم مملوء بالماء!
وكانت الصحيفة كتبت في عددها المبهج:”لن يحصّل اليوم ثمن توقيف السيارات بشكل غير صحيح. مسؤول المرور في عطلة”. ومن فضل الله علينا في العالم العربي، أن معظم الدول لا تحفل بالمرور، ولا بالوقوف بشكل خاطئ، لأننا تجاوزنا هذه المشكلة إلى غيرها، من باب كون المصائب لا تأتي فرادى.
وتعاطت “بيلد” مع القضايا السلبية من منظورها الإيجابي بالنظر إلى نصف الكأس الممتلئ، فبعد أن نشرت ذات الصحيفة هجوماً على الأمين العام للحزب الديمقراطي المسيحي “لورينتس ماير” نظراً لحصوله على راتب من صاحب عمل سابق، مما أثار الرأي العام، واضطر “لورينتس” إلى الاستقالة، فقالت الصحيفة في إشارة إلى مكافأة نهاية الخدمة الضخمة التي حصل عليها “لورينتس” من استقالته وبلغت 52 ألف يورو:”عيد ميلاد سعيد. مكافأة نهاية خدمة رائعة للورينتس ماير”. وإذا كان عند الألمان رجل واحد قد توبع على زلة أو هفوة، فإن أمتنا تستند إلى إرث أخلاقي عظيم يقوم على الإغضاء عن الزلات، لا باعتبارها استثناءً بل باعتبارها أصلاً!
وهكذا نحن العرب، فاقتصادنا في انخفاض ما يعني أننا سنصدر عدداً مبهجاً بصفحات قليلة، وربما سطور قليلة، وفي هذا من التوفير في الحبر والورق والمجهود الفكري والإنساني ما الله به عليم.
ولم يتنبه الزميل شربل إلى أن الفكرة الألمانية التي تقوم بها الصحيفة سنوياً، ليست وليدة الفكر الألماني، فقد سبقهم مجلس التعاون لدول الخليج العربية إليها من خلال قمة المنامة الأخيرة، فقد طرح الزعماء الخليجيون كل ما اختلفوا عليه، وبالذات معضلة الخلاف السعودي- البحريني حول اتفاقية الإعفاء الضريبي التي وقعتها المنامة مع واشنطن، ورأت الرياض أنها تقوض العمل الاقتصادي الخليجي المشترك، بما فيه السوق المشتركة، والعملة الموحدة، التي ما كدنا نفرح بدنو تطبيقها حتى تخلى عنها الزعماء لأنهم أرادوا أن يسبقوا الألمان إلى فكرتهم التي اعتبرها غسان شربل “جميلة وجذابة بلا شك”.
جميع الحقوق محفوظة 2019