الذين ينهضون بالمجتمعات هم دعاة التحضر، لا دعاة التخلف. والمشكلة الكبرى أن داعية التخلف لا يدري أصلاً أنه يدعو إلى ما يرجع بالمجتمع، ويفتك بالناس، ينطبق عليهم قول الحق: “وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون”. ودراسة التخلف وأسبابه من أهم أساليب العظماء الذين يريدون إخراج مجتمعاتهم من سطوة الاتباع والفقر والأمراض والاتكال على الآخر من الشرق أو الغرب، ولعل من أهم الذين كانوا يبحثون في أسباب التخلف المرحوم: خلدون النقيب، المفكر الذي بحث في “فقه التخلف” في كتابه: “آراء في فقه التخلف” الصادر سنة 2002.
برحيل المفكر الكويتي قبل أيام نتذكر دعاة التحضر والانعتاق من التخلف الذين فقدناهم في الخليج من أمثال أحمد الربعي، وأحمد البغدادي، وغازي القصيبي، وسواهم من العلامات الفارقة الذين قضوا حياتهم وهم يدرسون أوضاعنا ويقترحون مشاريع للخروج من سلطة التخلف والقبيلة والعادات. وهو حاصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة تكساس في الولايات المتحدة الأميركية عام 1976. والماجستير في علم النفس الاجتماعي من جامعة لويسفيلل الأميركية في عام 1969.
في نظرته الاجتماعية للتخلف يضع الاستبداد أو “الإذلال” على رأس الأسباب، ويخفي النقيب تشاؤمه الذي يبدو من بعض توصيفاته للوضع العربي وبخاصة حين وصف التخلف العربي بأنه “تخلف خالص” وحين وصف المثقف العربي بأنه “مثقف قبَلي”.
لكنه في ص 413 من كتابه “آراء في فقه التخلف”، يبدو مثل عالم الاجتماع الآسف على أمته التي لم تجد طريقةً لنهوضها حين يقول: “ما عليك إلا أن تسوح في أرجاء هذا الوطن العربي الكبير، لترى رؤية العين كيف تعمل تراتبية الذل والإذلال: الكبير يذل الضعيف ويستبيح كرامته، والموظف العام يستبيح كرامة المواطن صاحب الحاجة، في سلسلةٍ لا تنقطع… والذي يحزّ في النفس أكثر من أي شيء آخر، هو أن تراث الذل وتراتبيته أمرٌ معروف في ثقافتنا، ذكره الشيخ الجليل: عبدالرحمن الكواكبي وأسهب في ذكره، ولكن عامة المثقفين تتغافل عنه طلباً للسلامة حسب الأطروحة أو التخريجة المعروفة: ما كل ما يُعلم يقال”.
قال أبو عبدالله غفر الله له: ورحيل عالم اجتماع بمثل قيمة خلدون النقيب خسارة كبيرة، وحسبه أنه رحل وهو داعية للحضارة والإنسانية والتقدم، وكان يتألم لما يحل ببني جلدته من آلام، فرحمة الله عليه، وعوضنا فيه خيراً!