عبدالله ماجد آل علي السبت 30 ديسمبر 2023 / 15:49 – موقع 24 الإلكتروني
– «ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» (سورة إبراهيم: الآية 24).
– «فَقَالَ الرَّبُّ لِبُولُسَ بِرُؤْيَا فِي اللَّيْلِ: لاَ تَخَفْ بَلْ تَكَلَّمْ وَلاَ تَسْكُتْ» (العهد الجديد، سفر أعمال الرسل 18:9)
****
استوقفني مقال «الرجل الصامت» لسعادة الأخ والصديق العزيز تركي الدخيل، في صحيفة «الشرق الأوسط»، الجمعة 29 ديسمبر، وقد امتدح فيه الصمت ببلاغة آسرة، وجال فيه الصديق الكريم صاحب الثقافة الأصيلة بين حدائق كتب التراث الغناء، وحكايات الأقدمين، التي تغنت بفضائل الصمت، ورفعته مكاناً علياً، وأحلّته مكانة فوق مكانة الكلام.
وإذا كانت مقالات الصديق العزيز تركي الدخيل تستوقفني دوماً، فإن لتوقفي عند مقاله المذكور سبباً إضافيّاً، أو ذاتيّاً إذا شئنا الدقة، فقد استقر في ذاكرتي منذ مطلع الصبا حديث دار بين جدي، رحمه الله، وعدد من أحفاده، في واحد من اللقاءات التي يظللها الدفء والمحبة والحنو، وكان الجد اللطيف يحب أن يجعل من جلساتنا ساحة للمتعة والتعلم معاً، فسألنا – نحن الأحفاد – وكنا نتحدث حول القراءة، قائلاً: لماذا نقرأ؟ فأجابه أحد أبناء عمومتي: لنتعلم، وقال ثان: لنعرف أشياء جديدة، وقال ثالث: لنتفوق دراسيّاً، فقال لنا جدي: نحن نقرأ لنتحدث، ونفيد غيرنا بما قرأنه وتعلمناه، ونستفيد مما يضيفونه. واقتنعت لحظتها بما قال، وزادتني تجارب العمر بعد ذلك اقتناعاً.
وبذلك، فإنني أعتبر نفسي، منذ الصغر، ممن يُقدِّرون الكلمة والكلام، ويستمتعون بهما أيما استمتاع، ويُعلون فضائل الكلام على فضائل الصمت التي يزدحم بها الموروث العربي والعالمي. وكيف لا أُقدِّر الكلام وأجلُّه، وقد كان مدخلنا إلى معرفة العالم، وزينة مجالسنا العامرة بطيب الحديث وعذوبة الحكايات وبهجة الحكمة التي تجري بها ألسنة رجال خبروا الحياة واستصفوا من تجاربها الدروس والعبر، كما يُستصفى من التبر والصخر الذهب خالصاً.
وشاء الله لي أن أبدأ مسيرتي المهنية وأواصلها في مجالات تتصل بالفكر والثقافة والأدب، فأدركت أكثر قيمة الكلمة ودورها، ولطالما بحثنا في فعالياتنا وأنشطتنا عمن يملكون زمام الكلمة ويضعونها مواضعها، لتتصل رسالة المعرفة بينهم وبين جمهور متعطش إلى ما يقولون، ولا تلبث الكلمات أن تفتح الطريق أمام حوارات تتصل أسبابها، ونقاشات توضح وتضيف وتثري وترتاد أراضي جديدة في عالم المعرفة الممتد دون حدود.
أنا – إذن – عضو عريق من أعضاء حزب الكلام، يتحمس له، ويُروِّج لفوائده، وينافح عنه. وكان مما يخطر ببالي: كيف كان لي أن أتعلم ما تعلمته لو انتصر حزب الصمت وسادت كلمته (أو صمته). ماذا لو لم يتحدث أبي وعمي وجارنا الوقور وزميلي في الصف الدراسي ورفيقي في رحلة السفر، أكنت أعرف عن الحياة ما أعرفه الآن؟ وماذا لو اقتنع أساتذتنا في المدرسة الابتدائية بفضيلة الصمت، وأساتذتنا في الجامعة، والمحاضرون في الندوات، فصمتوا؟ أكنا نتعلم من صمتهم شيئاً؟ وماذا لو لم يُنشدنا شعراؤنا قصائدهم النبطية؟ أكنا نرتبط بتراثنا وقيم أجدادنا وتنسجم أذاوقنا وتتجانس على نحو ما نرى؟
وقد ارتبطت التحولات الكبرى في تاريخ الإنسانية بالكلام، سواء في ذلك الدعوات الدينية، أو الاتجاهات السياسية والفكرية والفلسفية، والمناظرات والمجالس التي تُناقش فيها مصالح الناس وشؤون حياتهم، وكلها مما يمثل فيه الكلام ضرورة لا غنى عنها، وركيزة من ركائز تسيير الحياة والسعي نحو التطور والتقدم.
وكما اقتطف الصديق تركي الدخيل من فواكه التراث اقتباسات تعظِّم من الصمت، فإنني يمكن أن أذكره بقول عليٍّ بن الحسين، حين سئل عن الكلام والسكوت أيُّهما أفضل، فقال: لكلِّ واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت.
ويمكنني كذلك أن أذكِّره بقول الجاحظ: الكلام إنما صار أفضل من الصمت؛ لأن نفع الصمت لا يكاد يعدو الصامت، ونفع الكلام يعم القائل والسامع، الرسائل والغائب والشاهد، والراهن والغابر.
وكان يمكنني أن أستطرد في إيراد شواهد تفضيل الكلام، ومنها الاقتباسات التي صدَّرت بها هذا المقال، وغيرها كثير، لولا أنني حين أعدت قراءة ما كتبه الصديق العزيز تركي الدخيل، وجدتُ أن اقتباساته الكثيرة تؤيد رأيي أصلاً، وأن ما يورده تعزيزاً لإعلاء قيمة الصمت يؤكد في الحقيقة إعلاء قيمة الكلام الجيد، وأن الصمت يكتسب قيمته، ويصبح فضيلة حقاً، إذا لم يمتلك صاحبه القدرة على أن يجد الكلام الملائم.
باختصار شديد، فإن تفضيل الصمت إنما هو تفضيل ناجم عن العجز غالباً، لا عن القدرة، ويعني ذلك أن الصمت ليس مفضلاً لذاته، بل لقصور في الملكات أو القدرات يمنع من الكلام، سواء كان دائماً أو اقتصر على موقف أو مواقف بعينها، وهو ما أوضحه بيت ذكيُّ لأبي العتاهية يقول فيه:
الصمتُ أجمَلُ بالفتى من مَنطقٍ في غيرِ حِينِه
وليس من شكٍّ في أن الصمت أفضل من الكلام في غير موضعه؛ أي إنه تفضيل «اللافعل» على «الفعل الخاطئ». لكن الدرجة العليا تصبح من نصيب الكلام الذي يعرف قائله كيف يضعه في مواضعه.
وإذا شئت فيمكنك أن ترجع إلى الاقتباسات التي احتج بها الصديق العزيز تركي الدخيل، لتتيقن مما أقول، ومنها قوله إن «من بليغ كلام أكثَم بن صَيفي: الصَّمتُ خيرٌ من عِيِّ المَنطِقِ»، وقوله إن العنتري يشرح بعض مزايا الصمت، قائلاً: من لزم الصمتَ اكتسى هَيبَةً تُخفِي عن الناس مَسَاوِيْهِ، وإشارته إلى أن العرب تقول «رُبَّ كَلامٍ أَورَدَكَ مَوْرِدَ القِتَال»، وكلها مما يفاضل بين الصمت والعيّ أو الكلام السيء أو الذي يورد موارد التهلكة.
وكنت أنوي أن أحاجج صديقي العزيز أيضاً بمأثورات عربية تملأ مجلدات ضخمة، عن سحر البيان، لولا أنني وجدت أنه قد كتب في صحيفة «الشرق الأوسط» نفسها، مقالاً بعنوان «السحر الحلال»، أورد فيه من المقولات والحجج أكثر مما عزمت على إيراده أن أورد، فكفاني بذلك مؤونة البحث والتنقيب. كما أن تركي الدخيل، بثقافته وخبرته وذكائه وشخصيته الآسرة، واحد ممن يمتلكون ناصية القول العذب والمحكم، بحيث يصبح الاستماع إليه متعة خالصة للعقل والوجدان. وحسبي وحسبه أن مقالي هذا “كلام على الكلام”!!
الرد الجلِي على عبدالله آل علي
تركي الدخيل الأحد 31 ديسمبر 2023 / 19:16 – موقع 24 الإلكتروني
ليس أسعد لكاتبٍ، من أن يجِدَ تفاعُلاً مع كتابته، ولو ذَهَب التفاعُل باتجاهِ غير ما ذَهب إليه، ومن فضل الله عليَّ أن لقي المقال الذي كتبته بعنوان (الرجل الصامت)، ونشر في (الشرق الأوسط)، يوم الجمعة 29 ديسمبر 2023، أصداء طيبة، منها المقال الذي كتبه الصديق الأستاذ عبدالله ماجد آل علي في موقع 24.ae في اليوم التالي لمقالي، وعنونه: (وفضائل الكلام أكثر يا صديقي). وأشكر الصديق الأثير، على ما خصني به من ثناء في مقالته، وعلى ما أرسله إليَّ برسالة خاصة، سلّمه الله، مبدياً إعجابه بما كتبت، وهذا بعض لُطفه، وشيء من حُسن خلقه، أدام الله عليه طيب السجايا.
بدأ الزميل آل علي مقاله مُشيراً لأنني تغنيت بفضائل الصمت، ورَفَعتُهُ فوقَ مكانة الكلام. وأوافق الصديق العزيز في الأولى، ولا أوافقه في الثانية، فالثناء على الصمت، لا يعني رفعه فوق منزلة الكلام، إلا إذا نص المُثني على الصمت بأن مقتضى ما أورد من ثناء، يعني تفوق الصمت على الكلام، على الإطلاق.
وهل من عاقلٍ، يفضل الصمت على الكلام؟!
فكيف تصلنا الرسالات، والمعارف، والعلوم، والفنون، لو قَدَّمنا الصمت على الكلام؟ وذهبنا للعمل بهذا التقديم؟!
إن من نافلة القول، ومما لا أَحسبه ينبو على شريف إدراك العقلاء، ومنهم الأستاذ عبدالله آل علي، أن هذا مما لا يمكن القول به بحال.
وإذا كان الكاتب الكريم، أشار إلى أن مسيرته المهنية، كانت في مجالات الفكر والأدب والثقافة، تؤكد على أهمية الكلمة، لنقل هذه المعارف، ونشرها، مما جعله يدرك قيمة الكلمة، فلا أَحسبه وفقه الله، ينسى أن الأقدار جمعتنا، في الكثير من هذه المراحل، فقد عملنا معاً، في جائزة الشيخ زايد للكتاب منذ تأسيسها، وبقيت عُضواً في اللجنة الاستشارية العُليا للجائزة، بضع سنوات حتى استقلت، كما اجتمعنا في مشاريع كثيرة، توطدت عبرها صداقتنا التي افتخر بها.
وأحسب الأستاذ عبدالله يعرف، أن كل مسيرتي المهنية، ثلاثة عقود في الصحافة والفكر والأدب، ثم خمس سنوات في الديبلوماسية، لا يمكن لمن انتظم فيها كل هذه السنوات، أن يقوم على مهمة واحدة وهو صامت! فهل هبط عليَّ تفضيل الصمت واختياره منهجاً على حين غِرّةٍ؟!
بالطبع، لا! ولا يمكن أن يكون ذلك!
وأستأذن الصديق عبدالله، والقراء الكرام، لأنقل من مقالي، ما يؤكد أني لم أذهب لتفضيل الصمت مطلقاً، وحاشاني، فمن ذلك: “وما يُجدي، أيها السادة، أن يتكلم المرء بكلام لا تدعو إليه حاجة، فلا مصلحة تفوت إذا قيل، ولا ضرر يقعُ إذا لم يُقل، ولا خير في كلام يقال في غير موضعه”. وتأكيدي على أن الكلام الذي لا يجدي، هو ما لا تدعو إليه الحاجة، وبمفهوم المخالفة، فإن ما تدعو إليه الحاجة من الكلام، يُجدي الكلام به. وإذا لم يكن خيراً في كلام يُقال في غير موضعه، فالخير فيما يقال في موضعه من كلام.
ولا أدري، هل وقف أستاذنا الماجد، عبدالله ماجد، على هذا المقطع المفصلي في مقالي، أم لا؟!
” ليس حديثنا الآنف، يا سادة، دعوة للصمت حتى الموت، ولا توجيه للصيام عن الكلام على الدوام، لكنه حَثٌ على اختيار الصمت حين يكون أنفع من الكلام، ودعوة إلى تَخَيُّر أطايب المعاني، وأجود الألفاظ، إذا لَزمك الحديث، وفيه يقول أبو الفتح البستي:
تَكَلَّم وسَدِّد ما استَطَعْت، فَإِنَمَا كَلامُكَ حَيٌّ، والسكوتُ جَمَادُ
فَإنْ لم تَجِدْ قَوْلاً سَدِيدَاً تَقُولُهُ فَصَمْتُكَ عَنْ غَيْرِ السَدِيْدِ سَدَادُ”.
وأُعيد التأكيد على دافع المقال كُله، كما في المقطع السابق، الوارد في مقالي: (الرجل الصامت)، ما أردته من: “حَث على اختيار الصمت حين يكون أنفع من الكلام، ودعوة إلى تَخَيُّر أطايب المعاني، وأجود الألفاظ، إذا لَزمك الحديث”. ومن يُجادل في أهمية الصمت حين يكون أنفع من الكلام؟ بل من يُنازع في أهمية الدعوة إلى ضرورة “تَخَيُّر أطايب المعاني، وأجود الألفاظ، إذا لَزمك الحديث”؟! ثم كيف يقول هذه العبارات، من يُقَدِّم الصمت على الكلام مُطلقاً؟!
ومن له أدنى معرفة في جُلِّ كُتب المحاسن والمساوئ، يَعلم أنها في كل باب تتناوله، تُورد فيه النقيضين: ما ورد في مدح هذه الأمر، ثم ما ورد في ذمِّه، وهو من باب الإثراء والتنوع، وبيان الآراء المتعددة، والتي غالبها مرتبط، بسياقات خاصة، لا وارد على إطلاقه، دون تفصيل، أو تبرير، أو اشتراط.
ثم، هل يقول أحد، بتقديم الكلام على الصمت، إذا كان الكلام، ثرثرة، وهذراً، ورطناً، يقال بلا سبب، ويُطلق بلا داعٍ. بل هل يفضُل الحديثُ المُؤذي، الذي يقوله من يهرف بما لا يعرف؟!
لا أشك بأن الكاتب الكريم آل علي يوافقني تماماً، في رفض هذا النوع من الكلام، ويقف ضده، فانتشاره إساءة للكلام الطيب، وافتئات على كلام أهل العلم والمعرفة والأدب والفضل، ومن واجب كل عاقل رفض الإساءة لقيمة كلام النبلاء، عندما يُدافع بما يروج في بعض محافل السخافة، من كلام تافه، لا يرتقي لسمو الكلمة، ولا يوازي رُقي العبارة.
وأختم، بسعادتي بما خطه يراع صديقي الخلوق، وأؤكد على هذه الصفة بين صفات طيبة كثيرة لدى عبدالله آل علي، لأن من تمكنت منه الأخلاق، لا يُمكن أن يقبل أن يُقَدِّم تافه الكلام، على الصمت، وهذا هو لُبُ مقال: (الرجل الصامت). ثم لا يفوتني وقد استمتعت بما نقله صديقنا عن طرف من ذكرياته مع أحاديث جده الفاضل الحكيم العالم محمد بن حسن السويدي، وهو رجل سار ذكر فضله ورجاحة عقله بين مجايليه، وأتمنى على أخينا الأستاذ عبدالله آل علي أن يفيض من هذه الذكريات النافعة عن الجد الراحل، في كتابات مستقبلية. فهذا من الحديث الذي يقدم على الصمت، وعلى ما لا يجدر من الحديث، ونحن بالانتظار.