– حسنًا، ومن يكتب عن تركي الدّخيل؟!. لقد عُيِّنَ سفيرًا، ومن يومها والكتابة تجتاحه بأقصى قدر من الفاعلية والانفعال، وقد كنّا نحن زملاء ومحبي قلمه نظن أننا خسرناه كاتبًا، وكانت أقصى طموحاتنا أن يظهر لنا بمقالين أو ثلاثة مقالات في السنة، وكان بعضنا “وأنا منهم” يخشى حتى على مثل هذا الظهور النحيل من ثقل الدبلوماسيّة حسًّا ومسؤولية!.
– كنّا نحسب، بحسرة مختلفة الدرجات، أننا خسرنا كاتبًا مميّزًا، متسامحًا، وخفيف الظل على تعدد وتنوّع مواضيعه!. يوم علمتُ بقرار تعيينه سفيرًا، قلت لأصدقائي: زميلنا السابق!. ولم أستشعر بمرارة الفكاهة في وصفه بـ”السابق” إلا حين تلفظت بها!.
– أعترف: فاجأني تركي الدخيل، ليس فقط بحيوية النشاط الكتابي وتجدد الركض في مضمار الكلمة، لكن أيضًا في تبنّيه فكرة أن تكون كتاباته الأخيرة، في الكثير منها، حاملةً راية الشكر والتقدير والامتنان لأساتذته ورفقاء دربه من أهل الصحافة والثقافة والفن والأدب في المملكة العربية السعودية، من خلال تسليط أضواء يُحيي ويُحيّي بها أضواءهم!.
– من الواضح أننا أمام نوعيّة جديدة من المسؤولين!. شبابًا، وحيويّة، وانطلاقًا نحو آفاق أكثر رحابة بمرونة عقليّة وجسديّة غير مسبوقة، فإن كانت مسبوقة فهي مسبوقة بما يشبه الاستثناءات لا القاعدة!. يمارسون أعمالهم الرسمية بصورة رائعة، دون عزل أنفسهم عن الناس ووسائل التواصل!.
– على المستوى الشخصي، أتذكر ما لا يمكن لي نسيانه: ليلة الاحتفال باليوم الوطني السعودي التي أقامها سعادة السفير تركي الدخيل في دولة الإمارات الحبيبة، بدأ الحفل السابعة مساءً، وكانت أمسيتي الشعرية ختام هذا الحفل البهيج في التاسعة والنصف مساء. ليلتها تصرّف تركي الدخيل بعجائبية!.
– من السابعة إلى التاسعة والنصف، كان تركي السفير، ببشته الرسمي، بمهابة المنصب الذي يزيده التبسّم كرامةً ولا تنتقص خفّة الحركة من ثقل موازينه شيئًا!. وفجأة، وقبل موعد الأمسية بدقائق، يرمي الدخيل عنه بشت السفير، ويتخلّى عن أي أُبّهة رسمية، ويعود زميل أدب ورفيق حرف: يجلس على طاولة الأمسية، ويقدّم بنفسه شاعر الأمسية، بكلمات يعترف لكم الشاعر الآن أنه وما إن سمع أولها حتى حاول الانشغال عنها وعدم سماع بقيتها خوفًا من تبيان أثرها، رقرقةً في العيون أو حشرجة في الصوت، لبهاء كرمها!.
– بهذه البساطة، بهذه الرحابة، بهذا العبق، تعامل تركي الدخيل معي، حاشرًا إياي ضمن كوكبته من أهل الفن والأدب والإبداع، الذين أخذ على عاتقه ردّ الجميل للسابقين منهم، وكشف ما يظن أنه يستأهل الكشف من الجميل في نتاج معاصريه ممّن لا يزالون يحاولون تقديم أشياء يحسبونها طيّبة وجميلة!.
– ما حبّرهُ تركي الدخيل عن أساتذتنا وأحبتنا: محمد الثبيتي، صالح العزاز، تركي السديري، بدر بن عبدالمحسن، مساعد الرشيدي، مسفر الدوسري، سعد الصويان، حمزة المزيني، غازي القصيبي، جاسم الصحيح، عثمان العمير، عبدالرحمن الشبيلي،.. وغيرهم، لم يكن أمرًا سهلًا. كان متقصّدًا وأبعد ما يكون عن الاعتباطيّة!.
– لا شك عندي أنه جمع بين أمرين: رغبته في الكتابة، في أن يستمر قلمًا مضيئًا، وإيمانه بضرورة أن يقدّم من موقعه الرسمي الجديد والمرموق، تحيّة وفاء وتكريم لمن صنعوا في بلاده آدابًا وفنونًا من ناحية، ومن ناحية هي تحيّة “مساعدة” وأخذ باليد لمن هم أقل شأنًا في هذه المجالات من أمثالي.
– أقرأ ما كتبه في الآخرين وعنهم، في الراحلين منهم تحديدًا، وبيني وبيني أقول: كم منهم من تمنى قراءة سطر أو عبارة من قلم له هذا الموقع اليوم؟!. يأخذني قولي هذا إلى تساؤل: وهل يتوجّب على تركي الدخيل نفسه الرحيل أو حتى الانتظار طويلًا، حتى يُكتب عنه في هذا المجال شيئًا؟!.
– يا تركي الدخيل: لا أدري إن كنت تدري أم لا تدري قيمة ما تقدمه.. أنت يا تركي بصراحة “ومنذ صرت سفيرًا” بدوت كأنك وصلت إلى قمة الهرم الوظيفي، فكانت السفارة تكليفًا وتشريفًا، أنت أخذت هذا التكليف والتشريف ووسّعت أفقه إلى حدود لم تكن منتظرة، وكأنك ترد لبلادك الجميل باعتنائك بكل ما هو جميل فيها. هذه ليست مقالات، هذه رسالة عميقة الأثر.. عميقة بكل ما للكلمة من معنى وبكل ما للمعنى من كلمات..، ما تقوم به وأُشهد الله على صدق رأيي: نبل قبل أن يكون أدبًا وثقافة،.. صورة عظيمة يُقاس عليها من معك ومن يأتون بعدك..
جميع الحقوق محفوظة 2019