حينَ مشيتُ أولَّ مرَّةٍ، كَانَ وَطَني شَابّاً كَمَا اليَوم، يَفْرَحُ عندَ كُلِّ شَهيقٍ وزَفير، وكانَ فتيَّاً بِملَامِحَ سَاكِنَة، وِحَكَايَاتٍ جَميلة تُوازي بَسَاطَة النَّاسِ والحَيَاة … وكنتُ، وكان جيلي، وأجْدَادي، وَأَهْلِي، وكُلُّ النَّاس، نَعُودُ لنَرْتَاحَ على وِسَادَتهِ الجميلة، بَعدَ أن يُضنِينَا اللعبُ والسيرُ في مُدُنِه الرَحْبَة، وقُرَاهُ المُسهَّدةِ الجُفُون، وحَارَاتِه وَأَزِقَّتِه.
نطرب لتَرَانِيمِ السَامري والصَهْبَة، ورُوحِ اللَّوْنِ في مُهَجِنا… وكنَّا ومَا زِلنا، نَعودُ لنَتَكِئَ على مسْنَده، كُلَّما أنهَكَنَا السَفَرُ، طَلَبَاً لِعِلْمٍ، أو تِجَارَة، أو رِزْقٍ، أو بحثاً عن فوائِدِ الأسفارِ السَّبعِ، التي رُبما صارَت اليومَ سبعينَ!
وكانَ وطني، كَمَا الآن، لا يَرْفَعُ كَفَّهُ المَبْسُوطَة الأبْهَى، إلاَّ مودّعاً إِيَّانَا حِينَ نُسَافِر لنَعُود، ومُسْتَقْبِلاً إيَّانَا، بَاشّاً فَرِحاً، حِينَ نَعُودُ إِلَى ظِلاَلِه، بِتَغَارِيدِ صَحْرَاء الرياض، وَتَصَاخُبِ بَحرِ جدة ــ «أُمِّ الرَخَا والشِّدة» ــ وهَوَاءِ جبال عسير، وقداسة مَكَّة وَالمدينة، وعِطر الطَائِفِ الجَمِيلْ… يَفْرِدُ شراعَهُ الواسِع، كُلَّما رأى طَيْفنَا، ويُضِيءُ مِيْنَاءَهُ، كُلَّما رأى وَجْهَنَا، لِنَلْقَاهُ وفِيهِ الَأهْلونَ، والأصْحَابُ والأَحِبَّة.
لأَبي هلال الحسن العسكري (395هـ)، في «كِتَابِ الصِنَاعَتَيْن»، قوله: «لا شيء أسبقُ إلى الأَسْمَاعِ، وأوقَعُ في القُلُوبِ، وأَبْقَى عَلى الليَالي والأَيَّامِ مِنْ مَثَلٍ سَائِرٍ، وشِعْرٍ نَادَر».
تَغَنَّى بالوَطَنِ الشُعراءُ، والأدباءُ، والعلماءُ، والحكماءُ، وقَالوا فيه مَقُولَاتٍ، أَجِدُ أَجمَلَها، صوتاً يُردِّدُ ما أشعرُ بهِ تجاهَ وطني، السعودية، التي لا يلومني في عِشقِها عَاقِلٌ.
كانت العَرَبُ «إذا سَافَرَت، حَمَلَتْ مَعَهَا مِنْ تُرْبَة أَرْضِهَا مَا تَسْتَنْشِقُ رِيْحَهُ وَتَطْرَحُهُ في المَاءِ إِذَا شَرِبَتْه»، وفقاً لابنُ أبي الحَديد، (ت 1258): شرح «نهج البلاغة».
ويُنسبُ للجاحظِ أن العربَ إذا ذَهَبَتْ إلى غَزْوةٍ أو كَانَتْ عَلَى سَفَرٍ أخَذَتْ مَعَهَا رَمْلاً وَعَفْرَاً مِنْ تُرْبَة بَلَدِهَا، لِتَشُمَّهُ كُلَّما أَصَابَهَا صداعٌ أو بَرْدٌ أو زُكَامٌ.
والتطَبب بالوطن، جميلٌ، وإن كانَ لا أصلَ له في الطب!
وحُبُّ الوَطَنِ حاصلٌ وواقعٌ، وإنْ قلَ خَيْرُهَا وشَحَّ فَضْلُها، فينقلُ البيهقي، (ت 932)، في «المحاسن والمساوئ»، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قَوْلَهُ: «لَوْلَا حُبُّ الْوَطَنِ لَخَرِبَ الْبَلَدُ السُّوءُ». ويُروَى عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه كانَ يقول: «عُمِّرتِ البُلدانُ بِحُبِّ الأَوْطَان»، و«مِنْ كَرَمِ المَرْءِ، بُكَاؤُهُ على مَا مَضَى مِنْ زَمَانِه، وَحَنِينهُ إِلى أَوْطَانِه، وحِفْظُهُ قَدِيمَ إخْوَانِه».
أمَّا شعراً، فقيل في الوَطَنِ، ما يُعيدُ الآهَة إلى الحَنَاجِرِ، كُلَّما تَغَنَيْنَا ببلَادِنَا وَغَنَيْنَاهَا. لأبي عمرو البَجلي، عن نَـجْـدٍ:
تَمَتَّعْ مِنْ شَميمِ عَرَارِ نَـجْدٍ
فـمـا بَعْدَ العَشِيَّة منْ عَرَارِ
أَلا يا حَبَّذا نَفَحاتُ نَجدٍ
ورَيَّا رَوْضِهِ غِبَّ الــــقِـطَارِ
وَأَهلُكَ إِذ يَحِلُّ الحَي نَجداً
وَأَنتَ عَلى زَمانِكَ غَيرَ زاري
شُـهـورٌ يَـنـقَضينَ وَما شَعُرنا
بِأَنصافٍ لَهُـنَّ وَلا سَـرارِ
فَأَمَّا لَيلُهُنَّ فَخَـيرُ لَيلٍ
وَأَطوَلُ ما يَكونُ مِنَ النَهارِ
ولابْنِ الروميِّ، (ت 896)، أبياتٌ عَنِ الوَطَنْ … وكأنهُ، في شِعرِهِ يُلْبِسُني وطني، تَاجَاً على رَأْسِي، وشِرْيَاناً من شَرَايينِ قلبي، كُلَّ صَبَاحٍ… يقول:
وَلِي وَطـَنٌ آلَيْتُ أَلا أَبِيعَهُ
وَأَلاَّ أَرَى غَيْرِي لَهُ الدَّهْرَ مَالِكَا
عهدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمة
كنِعْمَة قومٍ أصبحـُوا في ظِلَالِكَا
فقد ألِفـَـتْهُ النفسُ حتَّى كأنَّهُ
لها جَسَدٌ إنْ بَانَ غودِرْتُ هَالِكَـا
وحّبَّبَ أوطانَ الرجالِ إليـهمُ
مآربُ قضَّاهَا الشَّـبـابُ هُـنَالِكَا
إذا ذكروا أوطانَهُم ذكَّرتهمُ
عُهودَ الصبا فيها فـحنُّوا لِذَلِكَا
أما شاعرِ العَرَبِ الأَكْبَر، كما سُمي في حياته، محمد مَهْدِي الجَوَاهِري، (ت 1997)، فكان في شوقٍ دائمٍ لوطنِه، وكلَّما ذُكِرُ العراقُ، رأيتَهُ طيراً يُحَلّق في مَدَاه، وإنْ كانَ بعيداً عنه. في قصيدته، «يا دجلَة الخير»، أجزمُ أنَ الحِبرَ، كانَ رهينَ قَلَمهِ وهو يَكتُبُها، وبأنَّهُ كانَ فَائِضَاً بالحُبِّ والشوقِ للعراق العربي، وفَائِضَاً بالوَجَعِ والأَسَى على ما صَارَ إليه وَطَنُه… يقول:
حَييتُ سفحَكِ من بـُعْدٍ فَحَيِّينِي
يَا دجلةَ الخيرِ يا أُمَّ البَسَاتـينِ
حَييت سفْحَكِ ظَمْآناً ألوذُ بِهِ
لَوْذَ الحَمائمِ بينَ الماءِ والطّينِ
يَا دَجْلَة الخَيْر يَا نَبْعَاً أُفارقُه
على الكراهة بـينَ الحينِ والحينِ
إِنّي وردتُ عُيونَ الماءِ صَافِية
نبعاً فـنبعاً، فـَمَا كَانَتْ لتَرويِني
أمَّا أحمد شوقي، (ت 1932)، أمير الشعراء كما لُقِّب، فكان يَتَقَصّى عَظَمَة الأَوْطَان، ولا يمسّها بِغَيْرِ الحُب، وكَانَتْ كَأسُه، في أكْثَرِ أشْعَارِهِ وكِتَابَاتِه، مَلأى بِحُبّهِ لِبِلَادِه، والوفاءِ لها، والحثِّ على إعَانَتِهَا، والتضحية في سَبِيْلِها… وفي إحدى قَصَائِدِهِ يَقُول:
أيا وَطَني لَقَيتُكَ بَعدَ يَأس
كَأَنّي قَد لَقيتُ بِكَ الشَبابا
وَكُلُّ مُسافِرٍ سَيَئوبُ يَوماً
إِذا رُزِقَ الـسَلامَة وَالإِيابا
وَلَو أَنّي دُعيتُ لَكُنتَ ديني
عَـلَيه أُقابِلُ الحَتمَ المُجابا
أُديرُ إِلَيكَ قَبلَ البَيتِ وَجهي
إِذا فُهتُ الشَهادَة وَالمَتابا
وفي أحدِ نُصوصِ شَوْقي عَن الوَطَن، أراهُ يقولني كُلّمَا قَرَأْتُه، أعودُ طِفْلاً يمَلؤنِي نسيمُ نجد، وشَاباً، تَمشي بلادهُ بِجِهَاتِها الأَرْبَع، حُلمَاً جَمِيلاً وَدَائِمَاً ويَافِعَاً في شَرَايينِه، وَرجلاً، جَالَ بِلَادَ الدُّنْيَا، وَبقيِت بِلَادَهُ ممتدة كالأَزلِ في خَلاَيَاه… يقول شوقي في كتابه «أسْوَاقُ الذَهَب»:
«الوَطَنُ مَوْضِعُ المِيْلاَد، وَمَجْمَعُ أَوْطَارِ الفُؤاد، وَمضْجعُ الآباءِ والأَجْدَاد، الدُّنْيَا الصُغْرَى، وَعَتَبَة الدَّارِ الأُخْرَى (…) هُوَ أوَّلُ هَوَاءٍ حَرّكَ المَرْوَحَتَين (الرئتين)، وأولُ تُرَابٍ مَسَّ الرّاحتين، وشُعَاعُ شَمسٍ اغترقَ العَين؛ مَجْرَى الصِّبَا ومَلْعَبُه، وَعرسُ الشبابِ وَمَوْكِبُه، ومُرَادُ الرّزقِ ومَطْلَبُه، وَسَمَاءُ النُبوغِ وَكَوْكَبُه، وَطَرِيقُ المجدِ وَمَركَبُه؛ أبُو الآباءِ مُدَّتْ لَهُ الحياة فَخَلَدْ (…) مَدْرَسَة الحَقِّ والوَاجب، يقْضي العُمْرُ فيها الطَّالِب، ويقْضِي وشَيءٌ مِنْهُما عَنْهُ غَائب؛ حَقُّ الله ومَا أَقْدَسه، وَمَا أَقْدَمه، وحق الوالدينِ ومَا أعْظَمه، وحقُّ النفسِ ومَا ألزمه؛ إلى أخٍ تُنْصِفُه، أو جَاٍر تُسْعِفُه، أو رَفِيقٍ في رِحَالِ الحَيَاة تَتَأَلّفه، أو فِضْلٍ للرجِالِ تُزينه، ولا تُزيفه، فَمَا فَوْقَ ذَلكَ مِنْ مَصَالحِ الوَطَنِ المُقَدّمة، وأعباءِ أمَانَاتِه المُعَظّمَة؛ صِيَانَة بِنَائِه، والضَنَانَة بِأَشْيَائِه، والنَصِيحَة لأبْنَائِه، والمَوْتَ دُوْنَ لِوَائِه (…) فإنما الوطن كالبنيان فقيرٌ إلى الرأس العَاقِل، والساعد العامل وإلى العتب الوضيعة، والسقوف الرفيعة (…) والوطنُ شَرِكَة بَينَ الأوَّلِ والآخِر، وَبيَن الحَاضِرِ والغَابِر (…) ومُسْتَودعُ المَفَاخِرِ وصوانُ المآثر. والوطنُ (…) كتابُ الأبرار، وسِجِلُّ الهِمم الكِبَار، أسماءُ المُحسنين فِيهِ مَرْفُوعة، وحروفٌ بِماءِ الذهبِ مَكْتُوبة؛ (…) وليس أحد أولى بالوَطَنِ مِنْ أَحَدْ (…) فلا تحجب ذَاتَ الوَطَنِ بِذَاتِك، أو تطرف العيونَ عَنْ وَجْهِهِ بَقذاتِك؛ ولا تَكُنْ كالسرْحِ العَظِيم، إِذْ نَسِي خَلْقَهُ إذْ عَلا عَلى الأَرْضِ وهْي أُمه، مَاؤُهَا عصَارَة عُودِه، وَطِينُها جُرْثُوَمة وجوُدِه؛ حتى إذا ترعرع وكَبِر، أخْفَاهَا وَظَهَر، وَحَجب عَنها الشمْس والقَمَر؛ (…) ومَا وَطَنُ المُحسنينَ إلاّ الأسرة الكُبْرى، والسَقْفُ الوَاحِدُ والمنْزِلُ الحَاشِد، القَوْمُ في ظِلَالِه، على البر وخلاله؛ إخوانٌ مُتَصَافون، وأهلٌ مُتَنَاصِفُون، وجيرانٌ مُتَآلفون، قصدٌ في البَغْضَاء، وبُعْدٌ عنِ الشحناء؛ ألسنة عَفِيفة العذبات، وصدورٌ نَظيفة الجَنَبَات؛ تَرَاهُم كالنَحْلِ إِنْ سُولِمت، عَملت العَسَل، أو حُورِبت أعمَلتِ الأسَل؛ فاطبع اللَّهُمَ كنانتكَ على هَذَا الغرار، وأَعِدْهَا كما بدأتها مَحَلّة الأبرار».
وأَختِمُ بأبِي تَـمَّـام، (ت 845)، فأجمل بقوله:
كَمْ مَنزِلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفَتَى
وحَـنـِيـنُـهُ أبَـدَاً لأَوَّلِ مَـنْـزِلِ
ولا عَجب أن يُحِبَ الناس أوطانهم، فكيف بوطني الحبيب؛ أرضُ القَدَاسَات، ومُستَقَرُ الخيرات… قِبلة الملايين، سَخِي الكَفَّين، ظَاهِرُ البَهاءِ… مَوضِعُ النُبلِ والوُجَهاء… أَصلُ العَرَبِ، وشاغِلُ الغرب… أدام اللهُ عِزَّهُ، وواصلَ بَسطَ أمنه…