ليس أحب على الكاتب من أن يرى صدى قلمه تفاعلاً من السادة المتلقين.
ومن الإنصاف أن نعلم أن التفاعل برفض فكرة الكاتب أو الاختلاف معها هو شكل من أشكال الحوار العاقل، وإنما تقوم المجتمعات المتحضرة على عصف ذهني كهذا.
شخصياً، أدرب نفسي وأسوسها على تقبل كل الآراء حتى تلك التي تقف في أقصى نقطة من الضفة الأخرى، ما لم تحتوِ إقصاءً.
كتبت في مقالات سابقة عن “عربجة التدين”، وقلتُ إن مصدر نقدي لـ”عربجة” بعض المتدينين هو أن هؤلاء يمارسون هذه “العربجة” باسم الدين، ويماهون بين أفعالهم المنبوذة وبين التدين، فتظهر كأنها من نفس النبع، “وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج”.
إن حماية جانب الشرع المعظم هو الذي يجعلنا نشتد في نقد هكذا “عربجة”.
قلتُ أيضاً:”تقوم كل الأديان على نشر السماحة، وبخاصة ديننا الإسلامي الحنيف، لكن ما يقره الأول يتحول مع الوقت، ثم يأتي على الفكرة أقوام لا يأخذون منها إلا رسمها، ولا يدركون روحها، فهم إما مغرقون في الهوامش متمسكون بالصغائر، أو أنهم غير مدركين في أحسن الأحوال لكُنهِ التشريع، ولا لمقاصد الشريعة!”.
وتكاثرت التعليقات على مقالاتي السابقة مكتظة باللوم جراء نقدي للمتدينين دون غيرهم. طالبني البعض بأن أكتب عن “عربجة” الليبراليين!
ولا أدري هل يختلف معي أحد في أن تهديد مذيعة تحت وطأة سيوف مسلولة (هذا ما حدث بالفعل في المغرب، وليس الأمر مسرحية هزلية، ولا فيلماً تاريخياً!) بأن تتحجب أو أن يفجر المحتسبون “العرابجة” منزلها، ويقتلوها شر قتلة، تصرف “عربجي” أرعن؟
أو هل يماري أحد في أن ضرب عامل على وجهه لأنه لا زال يعمل بعد الأذان ولم يتوجه إلى المسجد، هو سلوك مشين ليس للإسلام فيه علاقة بتاتاً!
هل المنتقدون غاضبون لانتقاد هذه الأفعال أم لانتقاد الأشخاص، أم أنهم يعتقدون أننا ننتقد بذلك الإسلام؟ أفتونا في أمرنا يا أيها المعترضون!
أما الحديث عن “عربجة” غير المتدينين، فمستفيض منتشر كثرة، لكنه يا سادة يا كرام ليس موضوعنا، نعم عند الليبراليين “عربجة”، وعند الشيوعيين، وعند اللادينيين، بل وعند الفلاحين، والمزارعين، والأطباء، والباعة المتجولين، لكن أحداً من هؤلاء لم “يتعربج” باسم الله، ولم يبث “عربجته” على أنه يدافع بها عن إقامة دين الله، ولعمري إن هذا هو مربط الفرس، ولب الموضوع.
إن إحدى المشاكل التي نعانيها في مجتمعاتنا العربية، وهي بالمناسبة متشابهة الاهتمامات، هي أننا نصدر أحكامنا لا على أسس منطقية أصلية، بل انسياقاً وراء السجالات الفكرية، وانتثالاً تحت تأثير صراعات التيارات، وهو بالضبط ما دعا بعض الفضلاء، ليطلب مني أن أكتب عن “عربجة” الليبراليين مقابل كتابتي عن “عربجة” التدين، إذ أن تحول الساحة الفكرية إلى ميدان للمصارعة بين تيارين أوحى لهم بأن مقالاتي السابقة متأثرة بنقع غبار تلك المعارك، ولو أعاد النظر وأدمن التفكير فيها، لرأى أن الهدف تنقية حضارتنا وديانتنا من أن يتشبث بها بعض المتسلقين والسوقة والرعاع، فينسبون أفعالهم الشنيعة إلى الشريعة، فيحدث ما لا تحمد عقباه، ويحصل ما لا تؤمن آثاره.
جميع الحقوق محفوظة 2019