لي عزيزٌ من أيام الصبا يشاغبني وأشاغبه، وكلما وجد فرصة لاستفزازي وتذكيري بالخوالي من أيامي، كتب إليَّ رسالة أو أرسل إليَّ تعليقاً على شيء قلتُه أو كتبتُه.
وصاحبي هذا على وفائه، إلا أن استفزازه من أمتع ما يكون، وقد يمرُّ الشهر وينقضي الشهران وأنا لم أكتب إليه – لا تجاهلاً، فذاك ليس من طبعي – ولكن تأجيل لمتعة الكتابة، إلى حين يصفو الذهن.
ولست أستعرض نصيبيَ من أعطية الأصدقاء – وهم بهجة، والله، في كل حال – لكن صاحبنا الذي كان يطارحني وأطارحه، فأسبقه حيناً ويسبقني أحايينَ في انتقاء الأبيات، ونسبتها إلى قائليها، أتى بجريرة لا تُغتفر، وادَّعى أني مبالغٌ في حب أبي الطيب – خصوصاً في مقالاتي الأخيرة – ولعلي متجمل معه، فبدأت بشكره على تهمة يشرف حاملها، ويسعد القاضي والمدَّعَى عليه بها.
ولست ممن يبررون حبهم لأبي الطيب، ولا لغيره من الناس، فحسبُ المحبة أن يكون محلها القلب، والتلفظ بها زيادة في متن المحبة، لا يلام عليها المحب ولا يغضب منها المحبوب، وقد سبق أن بُحْتُ بحبي لأبي الطيب ولمن يحبه مراراً وتكراراً، والتهمة – بطبيعة الحال قديمة باردة – ومن قِدمها فإني سائلٌ صديقيَ المشاكس عن شاعر، يحفظ هو الكثير من أشعاره، وتردِّد الناس أبياته دون أن تنتبه إلى أن تفرُّد ورقّة معانيه، هي رقّة شاعر معاصر، وموسيقاه موشحات تنتظم في عين الملحن، قبل أن يُمسكَ بعوده، والأهم من ذلك كله أنه من أكثر الناس إنصافاً لغيره مهما اختلف معه، بل هو مادح كبير لأبي الطيب، ويكفي المتنبي أن يفخر الشعراء بمدحهم له، وهذا لَعمري عزيز فريد.
أحبُّ أن يكون دفاعي اليوم، عن أبي الطيب استعراضاً لجمال أحد أكثر محبيه إخلاصاً، فالرجل الذي تنازل عن اسمه، ليجتمع مع شاعر أموي في لقب غلب اسمه الحقيقي، حيث يجمعه اسمه مع رئيس لبناني. صاحبنا متنازل عن حقه في الرد على تهمة – ميزة، حبه لجزيرة العرب، وافتتانه بالصحراء، وعشقه التراث العربي، وصولاً إلى سكب المديح على حلب، وأشهر ساكنيها، ببيتين من الشعر ارتجالاً، فقد كان من عادة الجامعة الأميركية ببيروت أن تقيم حفلاً سنوياً تدعو فيه شاعراً ليلقي محاضرة عن «الشعر الرمزي»، وصادف أن يكون المحاضر هو الشاعر الكبير سعيد عقل، وشاعرنا الذي لن أصفه إلا «بمتيم أبي الطيب»، الذي ألقى قصيدة بعنوان «عروة وعفراء»، وقد صفق الجمهور طويلاً لصاحبنا بعد إلقائه قصيدته الجميلة، الأمر الذي لم يعجب سعيد عقل، الذي فجّرها مباشرةً على المنبر، قبل المحاضرة بقوله: «أنا لا أقيم وزناً لشاعر يعيش على ساحل الأبيض المتوسط، وتغسل أقدامه الأمواج، ويكلله صنين بتيجانه، ثم يحمّل نفسه عناء السفر إلى صحراء العرب ليوشّي بها قصائده»!
لكنّ ردّ «متيم أبي الطيب» كان أبلغ، فقد صعد إلى ذات المنبر، معقباً على شوفينية عقل، ببيتين في الحال:
ومعشرٍ حاولوا هدمِي ولو ذكروا
لكان أكثرَ ما يبنون من أدبي
تركتهمُ في جحيم من وساوسهم
ورحت أسحبُ أذيالي على السُّحُبِ
والحق أننا محتاجون إلى حفظ هذين البيتين، كي لا نفقد أعصابنا، كلما استنقص من صحرائنا وشعراء جزيرتنا مَن لا يرى للصحراء فضلاً وإلهاماً في خلق أقوامٍ لم يكن لهم من عمل إلا نحت اللغة من أطرافها كي تستوعب العجائبَ حيناً بعد حين. ومع أن سعيد عقل، و«متيم أبي الطيب»، حظيَا بشرف تقاسم صوت فيروز، وتقلدا لحون عبد الوهاب، إلا أن صاحبنا متفوق بحب فريد الأطرش، ذاك الذي غنَّى له «عِشْ أنت»، تلك التي يقول فيها بيتاً يصلح رداً على عقل، ولو أن مقامه غزلي بحت في الأغنية الرائعة:
ما كان ضرك لو عدلت
أما رأت عيناك قدَّك؟!
وقبل أن أذكر افتتان أهلنا المصريين بشاعرنا الرقيق، لغنائيته المفرطة، فمن العدل أن نذكر طرفاً من تعظيمه وتبجيله لأبي الطيب، في ذكرى ألفية المتنبي بحلب، فصاحبنا المحسوب – لغةً وأوزاناً – على المجددين، أرباب القصيدة الحديثة، تخلّى عن كل تلك الألقاب، ووقف حافياً بباب أبي الطيب، يمجّده ويعترف بأنه لا جديدَ بعده، ولو انقضت السنوات، الأمر الكافي لإرضاء غرور المتنبي المستحق، وهو في قبره بين أطلال حلب الشهباء:
قالوا: الجديد، فقلنا أنت حجته
يا واهباً كلَ عصر كلَّ ما خلبا
أفكرة لم تكن فتَّقت برعمَها
وجدة لم تكن أمّاً لها وأبا
بعض الجديد الذي يدعونه أدباً
يموت في يومه، هذا إذا وهبا
إن لم يكن لك حسن الوجه تعرضه
فقد ظلمت به أثوابك القشبا
والقصيدة شهيرة عجيبة، لا تدري أتحفظها كي تحبَ حلب، أو ليعلم الناس فضل أبي الطيب. يؤمن صاحبنا بالشعر من إعجابه بالمتنبي:
آمنت بالشعر مذْ أنشاك آيته
وكان عرشاً من الأصنام فانقلبا
وإن حفظ المحبون أسماء من مدحوا المتنبي، تشريفاً لمدحهم شاعر العربية الأول، فقد أغفل بعضهم، لكثرتهم، ولاختلافهم على أبي الطيب، فهذا المعتمد بن عباد يقرأ أبياتاً بتعظيم وإجلال في مجلسه، فينشد محمد بن عبد الجليل وهبون الأندلسي من الطويل وبقافية عجيبة:
لئن جاء شعر ابن الحسين فإنما
تجيد العطايا واللُّها تفتح اللُّها
تنبأ عجباً بالقريض ولو درى
بأنك ترويه إذن لتألَّها
والبيتان وقصتهما أعجبُ من مدحي وحبي لشاعر أسرتْني عذوبته وأكبرت إكباره لأبي الطيب فكتبت لكم عنه، فماذا عن رجل يمدح ابن عباد ويمدح المتنبي إقراراً بفضل الأخير على الناس حتى وهو في قبره!
إنَّ ذكر الكريم يحث على الكرم، ومدح حسن الخلق المتوشح بالأدب أكبر دعوة لحُسن الخلق في تقديري.
وقد كان صاحبنا الرقيق «يبكي ويضحك»، بشهادة صوت السيدة فيروز:
من بسمة النجمِ همسٌ في قصائده
ومن مخالسةِ الظبي الذي سنحا
قلبٌ تمرَّس باللذات وهو فتًى
كبرعم لمستْه الريحُ فانفتحا
ومن وفاء صاحبنا المتيم، مرثيته في حافظ إبراهيم، ورثاؤه أمير الشعراء أحمد شوقي، والأخير هو من أشار برأسه لعبد الوهاب، كي لا يفوت قصيدة شاعرنا، التي قال الأخير عنها: «لم أبذل جهداً في تلحينها، فقد جاءتني ملحّنةً من الشاعر»!
ولا أقول لصديقي الذي يعاتبني في أبي الطيب، إلا ما قاله محمد عبد الوهاب نقلاً عن شاعرنا:
قل لمن لام في الهوى
هكذا الحُسنُ قد أَمَرْ
إنْ عشقنا فَعُذْرُنا
أن في وجهنا… نظرْ
وأما أنت عزيزي القارئ، فأعلم أني ظلمتك اليوم، بتأخير ذكر اسم شاعر عربي أصيل، ذكرت جميع أوصافه، كما قال صاحبنا الجميل، في تعزيته للمتنبي بالشعر:
قد يؤْثر الدهر إنساناً فيحرمه
مَن يمنع الشيء أحياناً، فقد وهبا
صاحبنا هو بشارة الخوري، وإن شئت فهو الأخطل الصغير. وأؤكد لك أيها القارئ الكريم، أن عوالمه مستحقة للبحث، خصوصاً وقد غنّت له السيدة فيروز مرةً ومرتين، حتى انفكَّ عاقد الحاجبين!