صعق العالم بالحادث الإجرامي المشين في باريس، مجزرة «شارلي إيبدو» كانت كارثة بكل المقاييس، وهي فضيحة فكرية وثقافية للمجال الإسلامي والعربي، وبرهان ذلك أن نفس الفكر الذي فجّر بكل مكان بأميركا، أو بقطار لندن، أو بتفجيرات باريس، أو الرياض، والدار البيضاء، كلها تتكرر في 2014، لكن بنسخة أعنف وأشرس، القاعدة كانت تضرب المكاتب بالطائرات، وتفجر المباني، وتفتي بجواز نسف الشقق التي يسكنها المسيحيون أو «الكفرة» كما يقولون، وهذا الذي جرى في أحداث الحمراء بالرياض عام 2003. مع «داعش» ظهر ما يعرف بـ«الذئاب المنفردة»، وهم المجندون الذين لا يحتاجون إلى تفويض من القائد العام، ولا من القائد المباشر، الانتماء لداعش يتكوّن من بيعة للخليفة البغدادي المزعوم، ثم العمل على القتل وسفك الدماء وحز الرؤوس بدمٍ بارد. هناك نقلة في جينات الإرهاب جعلت الحالة «السبُعية» أكثر حدةً وشراسة وبطشاً. الكارثة الأكبر تحوّل هذا الحدث إلى ميدانٍ للتشكيك والنقاش حول وجود مؤامرة «مخابراتية» فرنسية، وهذا يعيدنا إلى المربع الأول قبل أربعة عشر عاماً. في 11 سبتمبر 2001، كنت أدرس في الولايات المتحدة. وبعد تفجير أبراج التجارة، والبنتاجون، وإسقاط طائرة في بنسلفينيا، في أحداث ما عرف بعد ذلك بـ9/11 اجتمعت مع مجموعة من الأصدقاء السعوديين، وقضينا وقتاً طويلاً في محاولة لمعرفة من الفاعل، وأثر ذلك علينا. كنا نتمنى بصدق أن يكون الفاعل متطرفاً أميركياً، أو أحد جماعات «اليسار»، رغم أن «اليسار» كان أوشك على الأفول حينها، أو «الجيش الأحمر» الياباني الذي تأسس على يد فوساكو شيجينوبو عام 1971، ولو أن نشاطاته توقفت في بداية الثمانينيات. كُنا منغمسين في التفكير الرغبوي، وهو تكوين الاعتقادات وبناء التحليلات على ما تتمنى، لا على الأدلة والوقائع. كنا نخشى أن يكون مرتكب الجريمة عربياً أو مسلماً، فيدفع بنو جلدته وثقافته ثمن فعلته. وهذا ما حدث بالضبط. فقد تبنى أسامة بن لادن زعيم تنظيم «القاعدة» العملية في فيديوهات ظهرت له. ومع ذلك بقي من بني جلدتنا من يُشكك في نسبة الجريمة لـ«القاعدة»! في أحداث باريس، التي شكلت 11 سبتمبر فرنسية، تكرر مشهد النفي، لكن بعد مرور عقد ونيف من السنوات، تمددت فيها «القاعدة»، وضربت بريطانيا، وإسبانيا، وقبل ذلك السعودية والمغرب ودول عربية وإسلامية، ثم جاءت الثورات العربية، وأفرزت الفوضى، بقصد أو من دون قصد، ظهور «داعش» و«النصرة»، وجماعات من التطرف، مارست أبشع أنواع القتل والتنكيل باسم الإسلام، مع شديد الأسف! عندما ندين إرهاب باريس وعرعر، فنحن في المقام الأول نحاول الانتصار لثقافة ودين مختطف، يحاول هؤلاء الإرهابيون أن يظهروه بمظهر التفجير، والتفخيخ، وقطع الرؤوس، وجز الرقاب! خلافاً، لكون مقتضى العدل والإنصاف، يدفعنا لأن لا ننصر الجاني على الضحية، ولو أخطأ الضحية!
جميع الحقوق محفوظة 2019