تستطيع الجلوس أينما أردتَ، والتحرُّك كيفما تحب، إذا علمتَ أين تقف جيداً الآن، ليس ذلك فحسب، بل تستطيع أن تُبصر القادم من بعيد، وتمسك بيدِ مَن يؤمنُ بك أيضاً لتأخذه للأمام، فقط حينما تتأكد من أنك أيضاً على الطريق الصحيح، هكذا رأيت مؤتمر «مستقبل الاستثمار» السعودي، وهكذا سمع – كثيرون مثلي – ما قاله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قبل أيام من إرسال هذا المقال.
قبل أكثر من عام لم نكن ها هنا، ولا فكّر زعيمٌ بنقل شتاء سويسرا القارس إلى جنبات الصحراء، لم نصرف كثيراً من ميزانيتنا على رواتب موظفي الدولة هذا العام، وحين يحول الحول سنكون قد خفَّضنا أكثر من المصروفات ذاتها، وسنزيد من التوظيف. إنها معادلة صعبة، وليست الوحيدة أيها السادة، ولستُ مازحاً كما ترون؛ إن أحببتم فلا تصدقوا أحلامي، لكن قفوا غداً أمام الأرقام، تلك التي يقول الاقتصاديون إنها لا تكذب.
نهار الدولة السعودية، وليلها، طويل ومتعبٌ جداً، عين على وزارة العدل التي ستقتص من الجناة للجاني، وأختٌ لها ساهرة دائماً على سير كل برنامج في طريقه، لكن ولي العهد الحالم لا ينام طويلاً، رؤيته بعيدة على الحاسدين، قريبة للمؤمنين بهمةِ السعوديين، الذي يرى شموخ جبل طويق أقل كثيراً من همتهم، ومن تسارع الأرقام التي تتحفنا بها اتفاقيات مبادرة مستقبل الاستثمار، فما يزيد على خمسين ملياراً من الدولارات الأميركية (حصيلة الاتفاقات التي وقّعها السعوديون في المؤتمر) رقمٌ تعجزُ عن تحقِيقه دولٌ مجتمعة في سنوات ويوقَّع بالرياض في ثلاثة أيام.
لكنَّ السعودية هي السعودية؛ بلد يتحول من اعتماد كلي على النفط إلى تنويع نعرف جميعاً كثرة الفرص المتاحة فيه، فمن قطاع الحج والعمرة الذي لا ينتهي ملك من إضافة لمسته على طريقة جديدة لخدمة الحرمين، حتى يأتي خلفه من يقول: بقي لنا الكثير، وعن جسر آخر باتجاه مملكة البحرين، التي كانت قبل الفهد بعيدةً جداً، إلى جسر آخر يزيد ربطنا بإخواننا وأحبَّتنا، من جهة أخرى موازية في المسافة، متجددة في الحب والإخاء بين الشقيقتين اللتين لا يفصلهما سوى أجاج الخليج، الذي به نعرف مكاننا على الخريطة.
من قرب البحرين بجسر فوق الماء ينوي أن يتصل الخليج بقطار يريح أمن الطرق من بلاغات حوادث السير، وتلويث عوادم السيارات بالمشتقات النفطية، للبيئة التي ستكون أكثر خضرةً، حين يستقل الراكب قطاراً من دبي ليبيت في رياض الحالمين.
مائة وخمسة وثلاثون متحدثاً يمثلون أكثر من مائة وأربعين مؤسسة قدموا ليس فقط لإلقاء الكلمات في منتدى الاستثمار، فالمديرون التنفيذيون لا تغريهم منصّات الكلام ما لم تكُن مسبوقة أو متبوعة بحفلات التوقيع على شيء يلمسون أثره مالاً في الغد.
ملوك ورؤساء ووزراء، مديرون تنفيذيون، شركات متعددة الجنسيات، فنادق ممتلئة الغرف، وازدحام في شوارع الرياض، مؤتمر «مستقبل الاستثمار»، موسم جديد، يضاف لمواسم المدينة التي لا تستريح من المشروعات التي لا تنتهي، منذ أعلن ولي العهد رؤيته التي لا تعرف البائسين؛ رؤيته التي علَّق عليها رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، بقوله: «سوف تمرون بأيام جميلة وأيام عصيبة، بانتظاركم الحاسدون والشامتون، لكنها ضريبة العمل»، وقبل ذلك قال، حين طلب منه المحاور الصديق د. باسم عوض الله إضافة شيء إلى كلام الأمير محمد: «لم يترك لي ولي العهد شيئاً لأقوله، لكنني أحب أن أقول إننا معكم بكل الأحوال».
الذين يعرفون السعوديين جيداً (وسعد الحريري أحدهم)، يعرفون جيداً أنه لا اقتصاد ولا ازدهار في المنطقة دون أمن وأمان، وأن السعودية هي دار الأمن والأمان، ذلك الوطن الممتد من الخليج للبحر، ومن تهامته إلى حدوده، التي نعرف جهاتها بالقلب قبل الحد، وطن كامل السيادة مرفوع الهامة، لا يضره خبر منقوص بشاهد منقوص الاسم، وطن يعرف كيف يلجم الأعداء، لأنه يعرف اختيار الحلفاء (قبل أي طريق) جيداً، تراب كامل السيادة لا يلقنه أحد ما يقول، ولا تضعضع عزيمته مقالة واشٍ، أو توقع حاسد قديم.
هذه الاختبارات في أول الطريق، هي زاد لرحلةٍ طويلة ترتاح فيها من عبء الأعداء المتلوِّنين؛ أيام الرخاء، وعلى ذكر الرخاء، فلن تمنعَ وليَّ العهد خصومةٌ مع جار لدود الاعترافَ بأدائه الجيد في خانة الاقتصاد، محظوظ من يملك خصماً يجعل الآخرين يصفقون له بإشادة، من رجل يحسن الاختلاف، والأهم أنه لا يفجر في الخصومة ولا يحسن الطعن بين كتفي غائب.
ومن المروءة، أن تذكر اسم مَن سبَقَك، ولو بعظمة القدرة على الحلم، حين يتردد الآخرون، عزيمة السير بنجاح في عالم الاقتصاد والتنمية والأرقام، محمد بن راشد، لا يكترث بالإضافات قبل الاسم أو بعده؛ فهو المعرف باسمه الثنائي الذي أشاد في تراب الحلم مدينة الأحلام، وهو المتواضع الذي لا يغير عاداته، مشي ثابتاً متسارع الخطى، دائماً باتجاه الأمام، ومثله لا يغيب عن مؤتمر «مستقبل الاستثمار»، ولا افتقدته السعودية في يوم كريهة أو ساعة محبة.
موعودون بـ400 مليار دولار من صندوق الاستثمارات السعودي قبل نهاية العام، ورقم كهذا لا يحتاج لتفصيل أو إسهاب عن طموح، بل قدرة السعوديين، حين ينوون التحرك للأمام، الأرقام صديق جيد لمن يحسن محاسبة نفسه قبل أن يتهمه الآخرون بالتقصير في أي اتجاه.
سيمضي السعوديون، بإرادتهم لا برؤى الآخرين، بشغفهم في رؤية شرق أوسط يتقدم مصاف الدول، يبصرون الرجل القادم من بعيد بحلم خير، يمكسون بالحبِّ يدَ مَن آمن بهم، وكان ولم يزل في صف المؤمنين بقوة الصحراء… على الانتصار في كل الفصول.
جميع الحقوق محفوظة 2019