مع كل صباح، تُجهّز الطفلة أقلامها وأوراقها، تحمل حقيبتها مودعةً والدتها إلى المدرسة، لا تسأل عن ديانة صديقتها، وهي تركض معها داخلة صفها، قد تكون مسيحيةً، أو بوذية، أو مسلمة. الأطفال بفطرتهم السليمة، لا يأخذون الأمور بتلك الطريقة المشبعة بأحقاد التاريخ!
البراءة بالتعاطي مع الآخر، انطلاقاً من أصله الخيِّر، هدفٌ شرعي من أصول الشريعة، وكان الله بعون المفتين. مع أفول كل عام، وفي فترات الأعياد المسيحية، تنهال الأسئلة عليهم، مما يوضح عمق حرج بعض المسلمين من هذه القصة، رغم اختلاط المسلمين بالمسيحيين، بكل مكان.
بعض الفقهاء لايزال في عزلته، مستخدماً «إرث الأزمة الفقهي»، لفتاوى صُنعت في ظل صليل السيف، وبصدى قرعِ طبول الحرب، وبفتراتِ رشق الدم، ونتاج الأزمة ليس حُكماً أبدياً، يُحسن أن يعمم بنتيجته على عصور المسلمين كلها، حتى في فترات السلم.
وبرغم بديهية جواز التهنئة للمسيحيين، ولغير المسلمين كلهم بالأعياد، بداهة لاجتماع المكون البشري والإنساني، لكن بعض التذكير بالأدلة والفتاوى يزيل الغشاوة، ويطمئن القلب الوجل، ويحقق المصلحة المدنية المرجوة.
من ينسى حديث أسماء بنت أبي بكر، المروي بصحيحي البخاري ومسلم، حين قالت للنبي عليه السلام: «يارسول الله إن أمي قدمت علي وهي مُشركة، وهي راغبة –أي في صلتها والإهداء إليها-أجابها النبي: صلي أمك». هذا الحديث يؤصل للصلة بين المختلفين في الأديان، فهدف الشريعة تحقيق مُكنة الدين من الواقع، وليس استئصال الأديان الأخرى، بل بقيت الديانات في الجزيرة العربية، حتى وفاة النبي الكريم، وأحل الله للمسلمين الطيبات، وطعام الذين أوتو الكتاب، وأجاز مصاهرة المسيحيين واليهود، فكيف يمكن إجازة مصاهرة من الأصل بحكمهم الكراهية، والعزل، والاستئصال؟… بل كيف يمكن تحقق المودة والرضا عن المرأة قبل زواجها، ومن ثم رضاها أماً للأولاد وراعيةً لهم في حياة الزوج، وبعد مماته؟!
قطعاً، لايمكن تحقق هذا، إن كان حكمهم في مدينة الإسلام العزل، والنفي، والتمييز، كما يرى البعض!
يمكن تقسيم الفتوى، بعصرنا الحديث على ضربين:
أولهما: احترازي، زهدي، وعظي، ينطلق من التحوط الذاتي، من إطلاق حكمٍ قد ينتج عنه تصرف خاطئ، وهذا محل انتقاد من علماء الأصول والمقاصد، باعتباره يخالف هدف الفتوى، والمنطق من تكييف الحكم وتعليله، من دون تحوط ذاتي زهدي، إذ الزهد حق للفرد بذاته، وليس من حقه أن ينسحب إلى فتواه.
والثاني: ينطلق من رؤيةٍ شاملةٍ للواقع، ومقتضى المصلحة، وتغير الظرف الإنساني، وتقارب البشر والحضارات والثقافات، الذي بات اليوم واقعاً مختلفاً عن الماضي، وانطلاقاً من كليات الشريعة ومقاصدها العليا، ويحتاج هذا المفتي إلى عدة تأصيلية، ووعي شرعي، وفقه مدني، وسأضرب على النوع الثاني فتوى محكمة مؤصلة للشيخ عبدالله بن بية.
يقول الشيخ عبدالله بن بية، في تحقيقه للمسألة:«تهنئة غير المسلمين مختلف فيها بين العلماء، وفي مذهب الإمام أحمد ثلاث روايات، بالمنع والكراهة والجواز، وهذه الرواية الأخيرة، هي اختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية، لما في ذلك من المصلحة، وهي التي نختارها، فتجوز تهنئتهم وتعزيتهم وعيادة مرضاهم، نص على هذه الروايات، في هذه الحالات كلها، المرداوي في «الإنصاف»، وما ذكره المجلس عن ابن تيمية في كتب أخرى كـ «اقتضاء الصراط المستقيم»، قد لا يتفق مع اختياراته الموثقة».
وبمحصلة بحثه للمسألة، رأى الصواب في التهنئة، لاعتبارات شرعية عديدة، منها أفعال النبي عليه السلام، في عياداته وزياراته للمختلفين في الدين، ونصوص الشريعة الغزيرة، ومنها النص المؤسس للتسامح والتعايش:« لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين».
هذه رؤية شرعية معاصرة، اعتمادها يؤدي لتجاوز مئات السنين من التقاتل والتنازع، لأن المدنية باتت تجمع كل الأديان، ومع نشوء الدولة بمفهومها الفلسفي، وترسيخ التعاقد الاجتماعي الصلب، والذي بني عليه القانون داخل المدينة، لا يحق لأتباع أي دين، سحب الأفكار، والآراء، والقناعات عن الآخر، تلك التي تأسست في ظلّ «ظروف أزمةٍ»، لتحويلها حُكَماً على كل حقب البشر الهانئة الهادئة، فتلك أمة قد خلت، لها ماكسبت ولكم ماكسبتم، والعبرة بالفقه المُنتج بظل ازدهار وتعايش، كما في تاريخ المسلمين بالأندلس، إذ حقق نموذجاً باهراً، للتعايش، والتسامح بين المسلمين، وأتباع كل الأديان.
هكذا يزدهر الفقه، في الظروف المزهرة النضرة الصافية، أما الدول فهي لا تزدهر إلا بالتعايش والتسامح بين عناصر المجتمع، وانصهار مكونات هذا المجتمع، وقبولهم لبعضهم البعض، والحد الأدنى من القبول، التفاعل مع أفراحهم واتراحهم.
جميع الحقوق محفوظة 2019