في 14 فبراير 2005، دوى انفجار ضخم على مقربة من فندق «سانت جورج» في بيروت، لم يكن الحدث مفهوماً، حتى أعلنت السلطات اللبنانية، أن التفجير كان يستهدف رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري، وجمع من مرافقيه. اهتز لبنان والعالم بوفاة الحريري بهذه الطريقة البشعة!
كان عنوان جريدة «الشرق الأوسط، بعيد التفجير:«اغتيال قلب بيروت»! علم اللبنانيون أن الاغتيال لا يخص الحريري وعائلته فقط، بل يستهدف مشاريع التنمية المستدامة التي حلم بها الفقيد. عدّد أصدقاؤه مآثره، ولا أزال أذكر الإشارة لحلم الحريري الاقتصادي للبنان، كان يريد أن يجري سباقاً في ماراثون التنمية التي كانت تتفوق بها دبي. حلُم بمدينة إعلامية في بيروت، تكون نقطة جذب للإعلام العربي والدولي، ولكنه رحل ورحل معه الحلم. أراد قتلتُه نفيه مع حلمه الاستثماري إلى الأبد، وباتت الصحف تخاف من رسم كاريكاتور، وتهاجم الفيالق المسلحة وأصحاب القمصان السود مؤسسات الإعلام وتكسر أسنان الصحافيين كما فعلوا مع الصحافي علي الأمين في أبريل من العام الماضي، فكيف يمكن للبنان استيعاب مدينة إعلامية؟!
في جلسة مؤتمر مبادرة الاستثمار، أعلن الأمير محمد بن سلمان، عن خطّة تنموية عربية هدفها بناء «أوروبا الجديدة». قال «لو ننظر للشرق الأوسط كانت الدول التي تعمل بشكلٍ جيد تعتمد على النفط، لكن أتى رجل في التسعينيات أعطانا نموذجاً أنه يمكننا أن نتقدم أكثر، إنه الشيخ محمد بن راشد». وتجربة دبي خصوصاً والإمارات عموماً، بقيت دائماً مميزة بكونها تنموية «إنسانية شاملة»، كما يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد عنها.
لم تكن التنمية مرتكزةً على أيديولوجيا معينة، أو منضوية وراء حزبٍ، أو تيار، بل أخذت على عاتقها معانقة البشر كل البشر، وأسست لقيم التسامح والانفتاح، وقيام الدولة المدنية.
يروي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في كتابه: «قصتي» أحاديثه مع زعاماتٍ عربية حول التنمية… بشار الأسد يتعجّب من بساطة حاكم دبي وهو يقود سيارته بنفسه، ويغشى المجالس، ويحتسي قهوته في ركن مفضل في أحد «المولات»، بينما القذافي كان يتمنى أن تولد تجربة مماثلة لدبي في ليبيا.
والأمر برأيي ممتنع لأمرين اثنين، الأول: أن الأحزاب الأيديولوجية، مثل حزب «البعث»، أو اشتراكية «الكتاب الأخضر» للجماهيرية الشعبية الليبية، كلها كانت لا تركز على تنمية الإنسان، والاستدامة التنموية؛ لذلك لم تفلح أي نظرية، قومية ولا «بعثية» ولا «إخوانية»، في بناء نموذج تنموي على الإطلاق، وهذا سبب فشل الأسد والقذافي. والثاني: أن افتقار تلك الدول للرؤية الاقتصادية والتنموية، وفاقد الشيء لا يعطيه.
لكن الأمر مع رفيق الحريري، غاية في الاختلاف، شخص متعلم، يؤمن باعتدال الإسلام، ويعترف بالآخر المختلف، ودرس قيم التسامح، وعرف معنى نجاحات التجارة الحرة، والفكر الليبرالي؛ لذلك نقرأ لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، رؤيته عن لبنان الذي عرفه منذ الخطوات الأولى، إذ يقول: «ذكرياتي الأولى مع بيروت، كانت من بدايات حياتي، وأنا صغير، وأنا القادم من صحراء دبي، من بيوتها الطينية، من شوارعها الترابية، من أسواقها المبنيّة من سعف النخيل. سافرتُ مع إخوتي إلى بيروت. كان لا بدَّ من المرور بها للوصول إلى لندن. أذهلتني صغيراً، وعشقتُها يافعاً، وحزنتُ عليها كبيراً. كانت شوارعها النظيفة، وحاراتها الجميلة، وأسواقها الحديثة في بداية الستينات مصدر إلهام لي. وحلم تردّد في ذهني أن تكون دبي كبيروت يوماً ما… لكن للأسف، لبنان تم تفتيته وتقسيمه على مقاسات طائفية ومذهبية، فلم تعُد بيروت هي بيروت، وأصبح لبنان غير لبنان».
إن ضعف التجربة البشرية أو انعدامها، سبب أساسي في الدمار والخراب. لا يصدق من زار بيروت ودمشق وبغداد، قبل سيطرة الأيديولوجيات البالية على الحكم، أن هذه البلاد هي تلك التي كانت يضرب بها المثل، تحضرا، وعلماً وتنمية إنسانية.
التنمية لا تحتاج إلى ضجيج «البعث» و«اليسار» و«العروبة»، بل إلى رؤية، وقديماً قال الفيلسوف نيتشه: «إن الأفكار التي تجري مثل وقع أرجل الحمائم هي التي تقود العالم».
جميع الحقوق محفوظة 2019