يمثل تركي الدخيل لي، وللكثيرين من مجايليَّ نموذجاً مشرقاً للإعلامي المثقف والتنويري، يقدم الإنجاز على التنظير، ويبتكر الفعل الخلاق الذي يؤسس للأمل.
أما الإيجابية وهي من المعاني الرفيعة التي يدافع تركي عنها ويتطلع إليها، فهي من صفاته الأثيرة التي أشاركه إياها مثلما أشاركه الكثير من تطلعاته، ولعل من جميل المصادفات أننا نحمل الكنية نفسها ونتشارك عام الميلاد نفسه وهو 1973، ذلك العام الذي شكل مرحلة جديدة لها مزاياها الثقافية والاجتماعية والسياسية والوطنية، وهو عام صنع له تركي الدخيل ذاكرة خاصة، أليس هو العام الذي انتصرت فيه الإمارات والسعودية للشقيقة مصر وقال فيه الراحل الكبير الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه عبارته الشهيرة «النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي»، فصار هذا العام ذاكرة للأمل والإيجابية والإنجاز والبحث عن المشترك وعناصر القوة والفعل الخلاق الذي سوف يصبغ شخصية جيلنا.
شاهدت تركي الدخيل للمرة الأولى في العربية عبر «إضاءات» وهو برنامج مهم كان حديث المثقفين جميعاً، نظراً لما يتمتع به من رصانة الطرح وقوة المحاور والإطلالة المشرقة، بدا تركي شخصية وادعة حميمية، لها معرفة بكل المسائل المشكلة للوعي العربي على المستويات كافة السياسية والاجتماعية والتاريخية والثقافية، ومنذ تلك الأيام وأنا أتابع مسيرته باهتمام وأزداد إعجاباً به، وقد سعدت غاية السعادة عندما حللت ضيفاً على إحدى حلقات برنامجه.
تعرفت على تركي الدخيل قبيل أكثر من عقد ونصف العقد من الزمان، في سياق ما أعتبره التحول الضخم والنوعي والريادي الذي نهض به صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آلِ نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في المجال الثقافي الذي صنع فارق الحياة اليوم، وأسس لمشهد ثقافي فريد من نوعه في العالم العربي، للعاصمة أبوظبي.
كان تركي الدخيل آنذاك يسهم معنا جميعاً في الحوارات والنقاشات، وكانت الثقافة هي شغلنا الشاغل، ولعلي لا أبالغ عندما أقول إنني كنت من ذلك اليوم أشعر بنموذج نوعي في شخصية تركي الدخيل، قريبة إلى روحي، وهذا النموذج الإنساني يمكن وصفه أننا في صدد شخصية تقدم الفعل الثقافي الجاد على كل شيء، أقصد الثقافة بكونها الحجر الأساس للتنمية والإعلام والعلاقات الجامعة المحرضة على المشترك العربي والعالمي الذي يجمع ولا يفرق.
وقد انخرطت معه برؤية ثقافية فريدة لأبوظبي، بعيدة الطموح ملهمة في مبتغاها، تستند على إرث حضاري عميق، كانت أبوظبي آنذاك تنهض بصناعة الثقافة والحياة، وكان تركي الدخيل يبحث عن الفارق والجديد والملهم في كل ذلك، ولعلنا تشاركنا الاهتمام والحب تجاه مشروعين على مستوى التطوير والتأسيس، وهما مشروع كلمة للترجمة وجائزة الشيخ زايد للكتاب، أما المشروع الأول (مشروع كلمة للترجمة) فقد نجح نجاحاً باهراً بحيث حصل على أرفع جائزة في العالم العربي جائزة الملك عبدالله للترجمة، ومازال يشكل حضوراً مهماً ورافداً للمكتبة العربية بأهم الكتب وأفضلها. أما جائزة الشيخ زايد للكتاب فلقد أصبحت اسماً على مسمى، تحظى باعتراف دولي كبير وتكتسب مكانتها وحضورها من قيم الشيخ زايد، حتى صارت نوبل العرب في السمعة والمكانة الدولية لما تتمتع به من موضوعية ونزاهة وقوة معرفية وحضارية.
توالت اللقاءات التي جمعتنا وما زالت بتركي الدخيل، في معرض أبوظبي الدولي للكتاب الذي لم ينقطع حتى اليوم عن المشاركة فيه، وله في كل دورة مبادرة ثقافية ملهمة، وبالمناسبة فلقد كان ومازال كثير الزيارة له، بل إنه أحد الوجوه المشرقة فيه على مستوى العطاء، ولعل اهتمامه بصناعة الكتاب والنشر ولد مع النقلة النوعية للمعرض، بعد توقيع اتفاقية مع معرض فرانكفورت للكتاب لتطوير معرض أبوظبي للكتاب، فيتحول من البعد العربي إلى العالمي، فينتقل الكتاب العربي إلى آفاق أبعد، ومنه استمد المعرض بعض مبادراته النوعية.
لقد أسس تركي الدخيل مركزاً للبحث يتمحور حول الكتاب وتطويره وأطلق مبادرته المهمة في صناعة النشر، وأقصد دار مدارك، ومن يطلع عليها سيتعرف بلا شك على اهتمامه النوعي بالثقافة الفاعلة والعضوية التي تتصف بها شخصيته، سواء أكان ذلك في حضوره النوعي في الإدارة الثقافة أو التأليف أو حتى في صناعة النشر والأنشطة الاجتماعية الجادة.
لقد شعرت بالفرح عندما عين تركي الدخيل مديراً لقناة العربية بعد أن كان فارساً مؤثراً في الثقافة والإعلام وبناء الجسور والعلاقات بين المثقفين والإعلاميين الإماراتيين والسعوديين، ومصدر فرحي أنه دخل إلى الإعلام من منظور المثقف العضوي، الذي يؤمن بأن الإعلام جزء من منظومة التنمية وعنصر فاعل في التطوير الثقافي والاجتماعي، ولعل هذا السبب الذي جعله يطلق البادرات الإعلامية التي ترسخ العلاقة الجامعة بين المنتجات الإعلامية والثقافية والمعرفية، وتبني الجسور بينها. فكان تركي الدخيل في كل مهمة توكل إليه يبحث عن الإضافة الملهمة من منظور ثقافي شامل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتنمية، يعمل بهدوء وسكينة، إذا ما فهمنا بأن العمل الخلاق يتطلب ذلك، الثقافة الحقة تجعله دوماً واسع المعرفة والاطلاع يتجنب الصدامات، لأنه يلجأ للحكمة واللغة المجازية المليئة بالشعر، وهذا ما يميز حسابه الرسمي في تويتر، فبينما يكتب الكثيرون بلغة صاخبة ومصطنعة تجده ذلك الحكيم المليء بالشعر، وبالمناسبة فإن شاعره المفضل هو أبو الطيب، وأقرب بيت إلى قلبه بيتان يتساوقان بشكل ملهم مع شخصيته:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي القرار الثاني
….
وإذا كانت النّفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام
فالأول يصور رؤيته الثقافية البعيدة الفاحصة، لا الحماس المصطنع، والثاني يؤكد أن شخصيته بعيدة الطموح، كبيرة النفس، وهو في كل ذلك قد جمع كافة العناصر المضيئة الملهمة في شخصيته، محبته للتراث والحكمة وتطلعه دوماً إلى تجديده برؤية معاصرة تجمع الثقافة المحبة لكل ما هو إيجابي ومشرق، وهو في كل ذلك صانع للأمل ومحب للحياة والثقافة، وإننا إذ نسعد ونبتهج بصدور المرسوم الملكي بتعيينه سفيراً لخادم الحرمين الشريفين في بلده الثاني الإمارات، فإننا نرى في كل ذلك استحقاقاً له سيعمل جهده بإخلاص لإنجاح مهمته الكبيرة، لما تمتع به من إنجاز ونجاح ووفاء لوطنه وولاة أمره، وقامة نعتز بها ونفخر.
*مدير عام أبوظبي للإعلام أمين عام جائزة الشيخ زايد للكتاب