إنها أمنية خورخي لويس بورخيس، المشهور عند محبيه ببورخيس (1899-1986)، وليس سراً أن بورخيس كان واحداً من أهم، وأخطر الكتاب في التاريخ الحديث. عاش عاشقاً للمكتبة والكتب، وبسببهما أصيب بالعمى، كما تروي بعض الروايات.
عمل منسقاً لمكتبة بوينس آيرس العامة. كان واجبه صف مئة كتاب في اليوم، هناك ضرب رأسه في عمود وسط المكتبة، التي ستحمله على كتفيها، ليعبر القارات بكل اللغات الحية، بعد أن يصف الكتب، كان بورخيس يقضي ساعات في القبو، يكتب المقالات، والقصص القصيرة.
كانت حياته مثل قصصه مليئة بالمفارقات العجيبة، وليس أعجبها أنه وبعد تولي خوان بيرون، السلطة عام 1946، في الأرجنتين، طرد من عمله، ليعيّن «مفتّش دواجن» في سوق بلدية المدينة، ولكنه استقال بسرعة، دون أن يتوقف عن السخرية، حتى من نفسه، كلما ذكر هذه القصة بطرافة، كونه مؤسساً للواقعية السحرية الساخرة من كل شيء، كان يرويها ملطفاً المسمى بقوله: «عُيّنت مفتّش دواجن وأرانب»، كان يتغزّل بالظلام والكتب.
كوّن قلمه منهجاً واقعياً، قدّم من خلاله قراءات لكتب، وقصصاً قصيرة مذهلة، وتأملات فلسفية، وبعض المحاضرات في الشعر. وعوض ذهاب نور عينيه، بأن يمم وجهه نحو نور المكتبة، حيث التاريخ والأدب وعيون الشعر الذي تُيم به بورخيس.
يروي عنه مؤرخّ حياته وأشهر من تأثر به، ألبرتو مانغويل، (ولد 1948)، قائلاً: «يحدث أحياناً أن يختار بنفسه كتاباً من المكتبة، فهو يعلم بالتأكيد أين يسكن كل مجلد من مجلداته، فيذهب إليه من دون أن يخطئه، لكنه في أحيان أخرى يجد نفسه في موضع، حيث الرفوف ليست مألوفة، في متجر بيع الكتب الأجنبية على سبيل المثال، وهنا ثمة شيء غريب، يحدث حينها أن يمرر بورخيس يديه فوق كعب كل كتاب، كما لو أنه يجسّ بطريقته سطحاً مجعداً لخريطةٍ مجسمة، ويتراءى له أن جلده سيقرأ له الجغرافيا حتى لو لم يكن يعرف المنطقة، فيرسل أصابعه فوق كتب لم يفتحها من قبل، شيء ما يشبه حدس الحرفي ينبئه عن الكتاب الذي يلمسه، وهو بارع بفك شفرة الأسماء التي لا يستطيع قراءتها».
بالنسبة إلى بورخيس، فإن الكتب هي جوهر الحقيقة، كذلك قراءة الكتب، والتأليف، بها يحاور الناس في عمق التاريخ، يهاجر إلى الأشباح، يتخيّل الشخوص، يرسم خيالاً خاصاً به، من تلك الشخصيات يصنع قصصه وأشعاره، وكما تهاجر به الفنون، فإن الخيال بالتاريخ وعبره يمنحه العبقرية التي يريدها، لهذا فتنه عمل «ألف ليلة وليلة»، وكتب عنه في (المرايا والمتاهات)، كتاباً منوعاً يمنحك متعة الهجرة بنصوص مزج فيها التاريخ، والشعر بالأدب، حبكها ضمن قصص قصيرة، يطوّع اللغة، ولا عجب أن يعتبر قلمه الأكثر براعة في القرن العشرين.
عند بورخيس الفن ابتذل، فكل إنسان فنان، وبذلك لن يكون الفن ذا أهمية بعد الآن، لقد زالت صالات عرض اللوحات والمكتبات والمتاحف، وتلاشت أسماء الأفراد والقرون، كل شيء مبهم الملامح، ما من كتاب فاشل أو ناجح، لذا كان يهضم كل شيء، ومن ثم يعيد إنتاجه على طريقة بورخيس، ومن اطلع على محاضراته الست عن صنعة الشعر سيلتقط ذلك، ويكفيه أثراً أن قال عنه ماريو فارغاس يوسا الحائز نوبل للآداب: «بورخيس هو الذي فتح بوابات أوروبا والعالم أمام الرواية الأميركية اللاتينية».
أرّقه كتابة شيء خاص، خارج المجالات والفنون، أكبر من الحدود، يليق بالتدفق اللغوي، بقلمه الآسر الساحر، أراد كتابة نص لا يوصف، ولا يصنّف، يكون كتاباً فحسب، لا هويّة له، أقوى من الشعر والنثر، والقصة والرواية، كان يظنّ أن ذلك ممكناً.
ولئن لم يتحقق النص التاريخي، الذي يحوي كل بورخيس، غير أنه استطاع عبر نصوصه المتعددة كتابة وطرح ما هو أكبر من الفنون، شيئاً عصياً على التصنيف والتحديد، بينما تقرأ له تشعر أنك أمام لوحة، وتارة أخرى وكأنك مبهور بسحر فيلم، وثالثة وكأنك في قاعات خشبية لقرون سحيقة مضت.
اقرأوا بورخيس قبل أن تقرأوا له، فقلمه هو القلم، وكتابه هو الكتاب!