تبدو الكتابة أسهل المهن وأصعبها، الكل يمتلك ورقة وقلماً، أو شاشة ولوحة مفاتيح. العبرة بالأحبار المستخدمة، بلون المعاناة الذي يطبع الأسطر، ويلون الحروف.
لو استعرضنا تاريخ الكتّاب الكبار في العالم، لوجدنا أن نبضاً من معاناة كان المحفّز على الكتابة والإبداع. «لصوص النار» للكاتبة جمانة حداد، الحافلة بالمقابلات الثرية مع كتاب عالميين كانوا توّاقين إلى القبض على أصل الكتابة وسرها، لكنهم لم يصلوا إليها.
في هذه الجريدة نشر في الرابع من أكتوبر ملف مهم عن «كارول بيرتش» الروائية والكاتبة، ترى أن سبب كتابتها يعود إلى الرغبة بتجاوز المحن، ثم التفوّق عليها، والانتصار عبر الكتابة.
نهى حوّا، التي استعرضت حياة الروائية وأعمالها تقول: «في روايتها «يتامى الكرنفال»، التي ستصدر في نوفمبر المقبل، تعود بيرتش بالتاريخ إلى العصر الفيكتوري، لتروي حياة المكسيكية جوليا باسترانا، المولودة عام 1834، باضطراب جيني أفضى إلى نمو شعر كثيف على وجهها وجسدها، ونتوء حاد في فكيها..
والتي كانت ضمن استعراضات المخلوقات الغريبة في ذاك العصر. وتشير بيرتش أن اختيارها لحياة تلك المرأة المضطهدة يرجع إلى أنها منجذبة للكتابة عن الموضوعات الكئيبة، مثل المعاناة والمجاعة والموت وغيرها؛ وما ترغب بتحقيقه هو المرور عبر كل تلك المحن، والخروج ببعض العناصر الإيجابية.
وما يثير دهشتها، حسب قولها، «هي المرات العديدة التي يمر بها الناس عبر تجارب قصوى، دون أن يفقدوا صوابهم، بل تراهم أصبحوا أكثر حكمة، وهي مذهولة تماماً من قوة هؤلاء الأشخاص».
تولد النصوص العظيمة لا من المعاناة مع ألمٍ أو عاهة، بل من إدراك الآلام الإنسانية أيضاً، وهذا يبدو في الكتابات الوجودية، ولعل أرنستو ساباتو، من أهم الأسماء في هذا المجال، وبخاصةٍ في روايته «النفق»، و«الأبطال والقبور». إنه يعتبر نفسه متجوّلاً سائحاً بين المقاهي والشوارع، يقرأ وجوه الناس وآلامهم، ويكتب معاناتهم، ويقتبس من الوجوه أبطالاً لنصوصه ورواياته، ومن الحكايات أساطير تروى، ومن الخرافات فنوناً تحبك.
تلك هي الكتابة وسحرها ووعورتها وصعوبتها، الكتابة لديه ليست للشهرة والمال أو للمتعة، ويبقى القلائل: جميع الذين يحسون بتلك الحاجة المكدرة واللحوحة إلى إعطاء شهادة على دراماهم، وشقائهم، ووحدتهم؛ إنهم الشهود معذبو العصر الذين يكتبون تحدياً للذات ويسبحون ضد التيار.
لا ينبغي اختيار الموضوع، بل علينا أن نسمح له باختيارنا؛ لا ينبغي البدء بالكتابة، طالما أن الهوس لم يحاصرنا بعد، ليبدأ بملاحقتنا والانقضاض علينا من أكثر زوايا الوجود سرية، وأحياناً لسنين طويلة، المهمة الرئيسة للكاتب، اليوم، هي البحث عن حقيقة الإنسان، وهذا يعني فحص طبيعة الشر.
الكتابة ضوء ووميض، ولعل فيها شفاء أيضاً؛ لأن كبار الكتاب حاولوا تخفيف آلامهم بالكتابة، بل واستخدموها للبحث عن أصل الألم المادي أو الوجودي؛ رأوا فيها ناراً ونوراً، واعتبروها الوسيلة الأكثر إنسانيةً للتعبير عن الآلام.
الكتابات الإبداعية ألهمت الفيزيائيين أيضاً؛ يذكر أينشتاين أنه مغرم بالروايات لأنها تمنحه القدرة على توصيف أفكاره، وكذلك الأمر بالنسبة للسياسيين، والموسيقيين، الكتابة بمنتجها الآسر لا يستغني عنه مبدع، بل هي فيض من الإلهام الباهر، ولا يمكن للإنسان أن يتجاوز الروايات الكبرى والقصائد والأعمال الإبداعية الخالدة؛ لأنها نتاج معاناة الكاتب، وتحاكي معاناة القارئ وترفع من معنوياته بدلاً من انهياره في لجج المعاناة.
حسناً كتبت الروائية البريطانية، كارول بيرتش، حين جعلت من أشكال المعاناة التي تراها مادةً لسردها إيجابياً وزرعها في نفوس القراء بصيغةٍ أكثر حيويةً وتجاوزاً، بدلاً من «سكنى المعاناة». البحث بالكتابة عن أصل التعب، أو عن معنى الرغبة بالكتابة، والجوع للتعبير، والبحث عن صوت صرير القلم.