للكتابة متعتها، وأفضل أسلوبٍ لصقلها؛ قراءة الحوارات مع الكتاب الكبار. إذ تتحول الكتابة معهم إلى حياةٍ وروح. لنمط مقاومة للآلام، وأسلوب محاورة للأحلام والأحزان.
الكتابة غامضة وواضحة، سهلة وفتّاكة، من خلالها تخلق أشباحاً وأبطالاً، تؤسس عالماً من البشر المتحاورين، من الأصوات والتيارات، من الأفكار والاتجاهات، تبحث عن التناقضات، عن الخطوط المتقاطعة، عن الحجج المتجادلة، تذهب لمجتمعات متمايزة، لخرائط جغرافية وإنسانية متفاوتة.
ذلك ما يخبرنا عنه الروائي الفرنسي غوستاف لوكليزيو (13 أبريل 1940)، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2008، إذ يتحدث عن فن الكتابة وخلق الأصوات بطريقة إبداعية نادرة تعكس التجربة الخاصة له مع عالم الكتابة والرواية، إذ رأى أن:
«من الصعب التكلم عمّا نكتب، أولاً نكتب لسببٍ لا نعرفه، ربما قد نتوقف حينما نعرفه، أن تكتب هو حاجة توجد بداخلك، تتوخى الخروج والانبثاق وفق هذه الصيغة، أن تكتب ليس بالأمر الهين، بل فن يحتاج لكثيرٍ من الدربة، أريد القول يقتضي الأمر بامتياز أكثر من مجرد معرفةٍ بمعجم اللغة الفرنسية، وكذا مكونها التركيبي، من الضروري أن تقرأ مجموعة مؤلفين، تهضمهم ثم تقوم عندك الرغبة كي تصنع شيئاً أفضل منهم».
الكتابة لديه أكبر من مضغ كلمات المعاجم، أو ترديد محفوظات، أو الشغف بخلاصات، بل هي أبعد من ذلك، إنها فعل تجاوز لما قرأناه، كي تكتب نصاً كبيراً عليك أن تقرأ كثيراً.
الأسفار، أرشيف الصور، الأفلام السينمائية، الأهداف الرياضية في المباريات، الموسيقى العظيمة، الوعي بالجغرافيا، خرائط العالم كلها مواد أساسية لمخيالنا أثناء الكتابة. لحظات الحب والحرب، الألم والسعادة، الحلم واليقظة تتضمن البئر الذي يغرف منه القلم من أجل بناء صرح لغوي مهيب.
كنتُ ولازلت مع الكتابة للجميع، للشباب والفتيات، لكن مع ذلك أؤكد على القراءة للكتاب الكبار. الروايات العظيمة نتاج هضم عدد كبير من النصوص الكبرى القديمة والحديثة، من الصعب أن يصقل الشاب موهبةً روائية من دون الاطلاع على الروايات الحائزة على جائزة نوبل مثلاً، والقراءة في اللغة، والتغذي من الشعر، والولع بالسينما، كل تلك المجالات روافد معززة للهواية الروائية، والتأليف لا يعني اكتمال التجربة بل بدايتها، وليست كل رواية تستحق أن تسمى كذلك، بل ثمة نصوص مطولة، أو قصة طويلة، لأن الفعل الروائي ينبع من تجارب قوية ومؤثرة.
وبالعودة إلى لوكليزيو نراه يسرد تجربته الكتابية: «لكي تكتب بلغةٍ ما، لا تحتاج فقط إلى لغة قاموس ومنظومة قواعد، بل يلزمنا شيء آخر، طبعاً في هاته اللحظة أدركت حاجتنا إلى هذا الشيء الآخر، أقصد الاستيعاب، التحوّل من مادةٍ إلى أخرى، وتحويل ما تلقيناه ونحن نقرأ، كل هذه الكيمياء التي تحدث بغية أن نكتب ما لدينا لكتابته في ذاته، بمعنى تأكيد وجوده.
وما يتوفر لنا نحن بالكلمات، يمارسه آخرون بالرياضة، أو فقط بين ثنايا الحياة، أحس حالياً باقترابي مما أتوخى أن أكونه، لكن ربما مجرد توهم للنضج، فحينما نصل إلى مرحلة النضج نحس حتماً بنوعٍ من الخمود الفيزيولوجي، والذهني، والذاكري».
تلك تجربة رائعة، تستحق أن تكون درساً للجيل الحالي، العاشق للقراءة والكتابة، بمعنى أن الرصيد الذي نحتاجه مستوى الصور، كثافة العبارة، اختصار المشهد، خلق الأبطال يأتي من ابتلاع النصوص الكبرى.
لنقرأ للكبار، أولئك الخالدون بأعمالهم، حين نقرأ لمن يشبهوننا لا نتطور، وحدها النصوص المختلفة التي تتحدانا هي التي تجعلنا نطور أساليب الكتابة الراقية، تلك التي تجعلك أكثر قدرةً على سماع أصوات الآخرين.