داخل تحفة معمارية كلاسيكية بديعة، هي أوبرا دبي، يدلف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، لرعاية مبادرة «تحدي القراءة»، التي شارك فيها ثلاثة ملايين ونصف المليون شاب، من الدانمارك، والصين، وأندونيسيا، بالإضافة إلى مئات الآلاف من المشاركين العرب، قرأوا ملايين الكتب. على المنصة يقف القراء الشباب، يتلقون الميداليات التكريمية، ليقع الخيار على ابن السبع سنوات محمد عبدالله فرح جلود، ابن الجزائر، الذي أذهل الحضور بكلمةٍ تفوق سنه بكثير، يتحدث عن التفكير بوصفه ضرورة إسلامية، مستشهداً بالعقاد.
دبي تصنع نموذجاً خارقاً غير مسبوق، ليس في مجال العمران والبنيان، كما يعيّرونها به بعض العرب، بل مع المباني أضافت المعاني، وطرحت أكبر مبادرة للمطالعة والقراءة، ولم تكتف بذلك، بل وأكرمت العائلات التي تعتني بأبنائها لتنمية قدراتهم في القراءة والمطالعة. في القراءة سبر لعبر التاريخ، يقول رينيه ديكارت: «إن القراءة والدرس، معناهما العيش في صحبة شخصياتٍ من العصور القديمة»، فالقراءة حوار مع كل الأزمان، ومع كل العصور.
«أول كتاب يمسكه الطلاب، يكتب أول سطرٍ في مستقبلهم»، كما يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، والذي ألقى كلمة في المناسبة، معتبراً القراءة مهمة وبخاصةٍ في زمن الأجهزة الذكية، والألواح الساحرة، ثم شرح تجربته مع العلم والقراءة، قائلاً: «اليوم الذي لا أتعلّم فيه شيئاً جديداً، أعتبره ناقصاً من عمري».
ألم يقل غوته، يوماً: «لا يعرف البسطاء ما تتطلبه القراءة من وقتٍ وجهد، إني أمضيتُ ثمانين عاماً ولا أجرؤ أن أقول لقد توصلت إلى الحقيقة». إنها ترسخ التواضع الذاتي والمعرفي».
«كي تعرف قليلاً، عليك أن تقرأ كثيراً»، طبقاً لمنتسكيو. إن تحويل القراءة لفعل يومي، مثل نصف ساعة، تقرأ فيها نصاً ممتعاً، أو فكرةً تشدّك وتحرّك ذهنك، أو معانٍ مختلفة لم تصل إليها تأملاتك من قبل، كفيل بأن يحدث فارقاً في حياتك ومنطقك وطرق تفكيرك.
أشعر بسعادةٍ غامرةٍ إذا ركبت الطائرة، ووجدت من لايزال متمسّكاً بكتاب. إن للكتاب سحراً خاصاً، منه يتعلم الإنسان الغرائب والفرائد، ولا يخرج أحد من الكتاب المنتقى بعنايةٍ إلا وقد كسب لفظاً جديداً، أو صقل أسلوباً، وربما عوّد نفسه على أدبٍ جديد، واكتشف مساحة شاسعة من الوعي البشري والإنساني.
القراءة ليست فعلاً خاصاً بالمثقفين كما يظن البعض، بل هي فعل لكل البشر، كالطعام والمنام، والتنفس. هل قال عاقل يوماً إن النوم خاص بطبقة أو أهل صنعة أو حرفة؟!
بكل أسف، تشكو العائلات اليوم من ضعفٍ مبكّر في نظر الطفل، أو عزلةٍ مرضية لا تجعله متواصلاً مع محيطه، وربما عوارض صحية غير سارة، وذلك بسبب إدمان الأجهزة التقنية التي تسبب هشاشة في الجسد ونقصاً في العقل وضعفاً، فهي إدارة الحوار والتواصل الجيد مع الآخرين. الكتاب أداة حوار، على عكس الأجهزة فهي أدوات استقبال وتكرير وحشو وتسطيح، لذلك يجيء مشروع تحدّي القراءة نافذةً لمستقبل أكثر إشراقاً لجيل يهمه التعلّق بالكتاب وتقليبه وإدمان النظر فيه.
دويّ هذه المبادرة كان قوياً، المدينة الوادعة، دبي، التي أثارت الجدل وتثيره، هي المنصّة الأكثر تأثيراً في المنطقة ثقافياً، وذلك بسبب الجهد المتواصل من قبل المسؤولين، شيء مثل الحلم أن ترى هذه المدينة، ووسط قاعة للأوبرا إذ تعزف فيها أعظم ما أنجزه البشر في الأوبرا والموسيقى، وتضم إلى ذلك الرعاية للكتاب، في ختام الحفل، يهتف الشيخ بالحضور، هذه السنة لدينا ثلاثة ملايين ونصف، في العام المقبل أريدهم سبعة ملايين، هذا هو حلم المدينة وقائدها، والأحلام الكبار لا يرسمها إلا القادة الكبار:
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام.