«من الخطأ أن تفتح أحد مجلدات مقالات الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، أعني من الخطأ فعل ذلك لو كان لديك خطط لعمل أي شيءٍ آخر خلال هذا اليوم، فهذه المقالات تشبه جبل المغناطيس في الحكايات الخيالية، لا يقع المرء في مجالها إلا وانجذب إليها، وبقي ملتصقاً لساعاتٍ طويلة»!
تحذير مهم من ميشائيل مار في كتابه «فهود في المعبد». وقد صدق، فإن قراءة بورخيس تدمّر الجدول اليومي، وتفشل المخططات، وتضعك في حالة إدمان. آمن بورخيس بالكتابة،، بوصفها أكثر من قالب لإيصال المعلومة، إنها قطعة فنية، مثل لوحة فنيّة، أو طبق لذيذ، أو قطعة موسيقية، أو سيمفونية نادرة.
الكلمات عنده مثل كومة من المجوهرات المبعثرة، يعضدها ضمن رؤيته، ليصنع منها قلادة باهظة الثمن. الحروف منثورة بين الناس، لكن بورخيس لديه طريقته في جمع الحروف ورصف الكلمات، يصنعها بطريقة لا مثيل لها! للسخرية حضورها في نص بورخيس، وبالعودة إلى تحذير ميشائيل، فإن:
«هزلية الوصف تعد شيئاً مألوفاً لنبرة كاتب يشكّل الهزل والسخرية من الذات، الجانب الأعظم في مغناطيسيته الغامضة. بورخيس جاد إزاء موضوعاته، لكنه غير جاد إزاء نفسه، فمن صفاته الأكثر جذباً، أنه يستطيع بصورة غير لافتة السخرية من ذاته بشكل متكرر، هذه الصفة مرتبطة بلا شك بكونه من أتباع شبنهاور، الذي تعلم من أجله اللغة الألمانية».
السخرية لها سحرها الحقيقي في الكتابة لدى بورخيس، ولها بصمتها الفريدة في النص، كما يعتبرها أيضاً أمبرتو إيكو، لأنها تخلق مفارقات تشرح الفكرة عبرها أفضل من كتابتها بطريقة مباشرة، فالنص الساخر المحكم، نص عميق بالضرورة لما يحمله من إشارات ومفارقات.
ومن تباينات داخل الفكرة الواحدة والمثال الواحد، يضيف: «التفرد لا يعني بالطبع ألا يقوم بتكرار التطرق إلى موضوعات معنية، فمن خصائص هذا الكاتب، أنه يحوي مكتبة كاملة في ذاكرته التي تشبه عش النسر، ورغم ذلك، دائماً ما يعاود الرجوع إلى بعض الحكايا المفضّلة لديه.
لقد بقي بورخيس وفياً طوال حياته لدائرة محدودة من الموضوعات، مثل السلحفاة، والنمر، والفراسة الصينية، وعندليب كيتس والحلم، كما أن من بينها المتاهة والمرآة، وحكايات ألف ليلة وليلة، والجاوتشو الطاعن بالسكين».
صمع بورخيس موضوعاته، كسر قوالب الكتابة الجامدة، حتى الشعر نظر إليه بطريقة مختلفة، كما في محاضرته: «صنعة الشعر»، النص نفسه يأخذ عدة صيغ، والحكاية الواحدة يدورها ويكتبها مراراً، ويومض بها بعدة نصوص وكتابات، لكن لكل رواية أسلوبها، ولكل حالة سرد مناخها، فنصه دائماً يتحوّل ويتغير.
كما في المقولة الإغريقية لهيراقليطس، فإن: «الإنسان لا يعبر النهر ذاته مرتين»، فكل شيء يتحول ويتغير، ونصوص بورخيس، حتى وإن كررت الصور، وبعض الرموز، والأيقونات الساخرة، إلا أنه يجددها بتكراره، فهو تكرار تجديد وغنى.
لا تقرؤوا بورخيس، فإن نصه يدفع على الإدمان، ويمكنه أن يشغلكم ويسهركم، لديه مغناطيس ساحر، بين الرؤية العميقة، والسخرية المفارقة، يكتب في الفنون.
لكنه لا يلتزم بها، قد يشرح لك فكرة، أو يختصر لك قصيدة، أو يعرفك بفيلسوف معين، لكن من دون مرجعية مكتبية، أو أساليب أكاديمية، بل من ذاكرة تمزج الشعر بالفكر، وتأخذ السخرية حكاية، وتصنع قصصاً كبيرة من تفصيلات صغيرة، فالرؤية لديه هي التي تحدد الشرح، ولكن الشرح لا يصنع الرؤية!
الكتابة لديه مثل القراءة، لا منهاج، ولا طريقة، يعيش الكتابة والقراءة معاً، ليست نمطاً أكاديمياً، أو مدرسياً، السخرية من الذات بالنسبة لبورخيس، هي صناعة لحكايات جديدة متدفقة، للغة أخرى، تكون الذات هي الموضوع، وهي موضع مشرط الكتابة، وصلب النص وأساسه.
بورخيس مغناطيس، كلماته عبقرية، يكتب كلمات مثل الناس، لكنها كلماتٌ ليست كالكلمات!