أن تصرخَ يعني أنك تتألم… أن تتألمَ يعني أنك تشعر، والشعور دلالة الإحساس بل دليل بقائك حياً معدوداً بين الأحياء، قد يكون ذلك كله صحيحاً، قبل أن تضجَ وسائل الإعلام العالمية، ومن بعدها المحلية، الأسبوع الماضي، بقصة السيدة جو كاميرون، الستينية التي تقيم شمال أوسكتلندا، فلستَّة عقودٍ ونصف، لم تتألم هذه السيدة العجيبة! أو هكذا تقول عن نفسها، ويشهد لها الأطباء، فهي لم تطلب مسكِّناً واحداً، في سجلاتها المرضية.
لم تشعر بآلام المخاض! وحين اهتزت سيارة تقلها، إثر اصطدامها بسيارة أخرى.. لم تنزعج، ولم تشعر بشيء، وقالت: «ليس لديَّ أدرينالين، مثل هذه التحذيرات مهمة، وهي جزء من بنيان البشر، لكن ليس بإمكاني تغيير حالتي».
من أصعب الكلمات تعريفاً مفردة «الألم»، فقد تجد الصحيح، السليم، المعافى جسدياً، مطرقاً رأسه، فتسأله: ما بك؟ فيجيبك، بأنه حزين، متعب، أو في حالة شوق أو فقد. تعلِّق في داخلك: ما أشدَّ ألمَه، فتواسيه وتطيّب خاطره.
في المقابل، عندما تؤدي ابتسامة، لزوال ألم مريض تجرّع جرعات مسكنات متتالية، تفرح بذلك أشد الفرح!
من مرافقتي للمرضى، فهمت أنَّ للأطباء، طرقاً عجيبةً في قياس الألم، ووصفه وتصنيفه، فبعض آلام القلب تكون كطعنة سكين، أو مثل جبل جاثم على الصدر.
يصفُ الأطباء الألمَ، بالمتنقل والساكن. يسألك طبيبك، حين يشك في التهاب مرارتك؛ عن ألم في ظهرك! ربما طلب منك أن تجلس أو تعدل وضعية جسمك، حين يشتبه في التهاب الزائدة الدودية!
عندما تشكو الصداع، يسألك عن نومك، وإقبالك على الطعام! إنهم، يحاولون، تتبع تأثير الألم، وامتداده، في ساعات يومك.
لا أدري، لماذا تذكَّرتُ، شاعرَ العراق العظيم، محمد مهدي الجواهري، وأنا أقرأ قصة جو كاميرون، حين قال:
لم يبقَ عنديَّ ما يبتزُه الألمُ
حَسبِي من الموحشاتِ الهمُّ والهرَمُ
لم يبقَ عندي كفاءَ الحادثات أسىً
ولا كفاءَ جراحاتٍ تضِّجُ دمُ
وحين تَطغَى على الحرّان جمرته
فالصمتُ أفضلُ ما يُطوَى عليه فمُ
أبو فرات، شاعر دجلة والفرات، لم يطلب مسكنات لآلامه، لاقتناعه بعدم وجود ما يغري الألم بابتزازه!
لم يكن بعيداً عن حالة السيدة الأوسكتلندية، لكن الفرقَ، في نظر العبد الفقير لربه، أن الجواهري، كان عارفاً بحالته، مدركاً أسباب علتِّه النفسية، حدَّ اختيار الصمت علاجاً لها!
السيدة جو، لم ترتحْ فقط، من الإحساس بالألم، اللهم لا حسدَ، بل تحررت من الخوف ستين عاماً، فلم تدرك يوماً، احتراق جلدها، وهي تتعامل مع الفرن، إلا حين اشتمت رائحة الحرق، وليس لها يد في ذلك، بل هي طفرة جينية نادرة الحدوث، رافقها ذاكرة سريعة النسيان، جعلتها من أسعد الخلق، على هذه البسيطة، تقول جو: إنها كانت تزعج الناس، بكثرة الحديث عن سعادتها ونسيانها لستة عقود. تبتسم وهي تقول: ظهر عذري الآن!
طربت كثيراً، حين وجدتُها تتفق مع مولانا أبي الطيب، وهي تنفي عن نفسها الشجاعة، لا لشيء، ولكن لأنها لم تعرف الخوف، الذي يميز الشجاع عن الجبان. تقول بعد حادث السير الآنف: «سائق السيارة على الجانب الآخر (اهتز) كما اهتز كل شيء، لكنني حافظت على هدوئي. لم أتخذ ردَ فعل، هذه ليست شجاعة، القصة أني لا أعرف الخوف»!
إنها تميز بحساسية شاعر، بين الشجاعة، وجهل ماهية الخوف، وهذا لعمري غاية الإنصاف. كيف وافق أبو الطيب السيدة الأوسكتلندية، دون أن يعرف القصة العجيبة:
وما الخوفُ إلا ما تخوفه الفتى
وما الأمنُ إلا ما رآه الفتى أمنا
يسبق الإدراك الفعل فيسميه، ولهذا فرّق العربُ بين الحمقِ والشجاعة، بين الحرص والشح، فسابق فعل المرء، وتاريخ سلوكه يربطه بصفة أو بأخرى.
إذا حُكيت لك قصة واحدة، بذات الأحداث، ونفس ردة الفعل، لشخصين تعرفهما جيداً، تجزم أن الأول تصرف بدافع صفة حميدة عهدت عنه، وأن الثاني دفعته خصلة سيئة عُرف بها، إلى تصرفه، وربما يندهش الراوي، من صدق حدسك، مع أنك لم تشهد القصتين، ولا سمعت عنهما. وليت شعري، متى يستطيع الطب، أن يخبرنا أكثر، عما يدور في أدمغة البشر، ليكون الطيب طيباً، والسيئ سيئاً، علَّنا نجد عذرنا، كما وجدت السيدة كاميرون، عذرها في النسيان، والسعادة، ولو بعد حين.
ومن يدري، فربما ستر الله بما نحن عليه، من عدم كشف المستور، على الإنسان، وإلا لفتك الناس بعضهم ببعض على أفكارهم، ووساوسهم!
لولا العملية الجراحية، لمفصل يد السيدة جو، الذي لم يؤلمها يوماً، لكن تدهور حالته الوظيفية، استدعت تدخلاً جراحياً، لَمَا علمنا عن حالتها العجيبة.
شكراً لملاحظة الطبيب، الذي انتبه إلى أن السيدة، لم تطلب مسكناً واحداً، حتى بعد مرور عام، على الجراحة المؤلمة، فطلب تحويلها لطبيب الوراثة، الذي قال: «من الممكن أن يكون هناك أناس كثيرون يعانون من حالة السيدة جو»!
ولا أدري فعلاً، هل من الأخلاقي، أن نشك في كثيرين ممن نعرفهم، ممن يؤذون أنفسهم، ويؤلمون غيرهم، من دون أن ينتبهوا لفداحة ما يقومون به؟!
ليت الناس يتحررون من مسكنات الآلام، فلا يحتاجون حتى لزيارة الطبيب، لكن ماذا عن هؤلاء الذين لا يكفون عن أذى الآخرين ولا يشعرون – حتى مجرد الشعور- بأنهم يسببون ألماً فادحاً، لا تفيد معه مسكنات، ولا تطببه جراحة!
«الصراخ على قدر الألم»… كانت الجملة التي استعملها محاوري الكريم، عمر الجريسي، في محاضرتي الأسبوع الماضي، بمجلس شباب دبي. بعد أن ساقنا الحديث، إلى أن يحتل تعيين العبد الفقير إلى ربه، سفيراً للسعودية لدى الإمارات، قصص الصدارة في الإعلام القطري، الفضائي، وفي الصفحات الأولى على مدى أسابيع، وبمعدل يزيد على ثلاثين قصة!
لم أصرخ ولم أتألم، كما فعل القوم… صافحت محاوري، وأنا أبتسم له، ودعوت له من الأعماق: «لا جعلك الله تتألم، كما يتألم غيرك حد الصراخ».