أحبُّ أن أراها على مرأى العين، وفي متناول اليد، وربما أشكلت عليَّ كلمة، فأخذتْ يومي وليلتي، لأجد لها مرادفاً، أو أراها في سياق يليق بها.
أعرف قلق المحررين، وحساسية المترجمين، عندما تضيع ساعات في اختيار كلمة مناسبة، وفوق هذا كله: ما وجدت كلمة أكثر اتساعاً في المعنى، وأكثر حضوراً من الغربة عند السادة الشعراء.
أتذكر، الشاعر العراقي، الصديق، عباس جيجان، وقصيدته نهار تسلمه بالبريد وردة مع خطاب يفيد حصوله على الجنسية الهولندية.
لمست أحجار مكة المكرمة، وجبالها في صوت الشاعر السعودي الكبير، محمد الثبيتي، رحمه الله، بل أزعم أني صعدت نخلات بلادي واحدة… واحدة، كلما تنهد الثبيتي، أو غنى جاسم الصحيح، وإلى اليوم، لا أجد تفسيراً لاستيقاظ الذائقة صباحاً، لتختار بنفسها قصيدة، أو أغنية، باتجاه جهة من جهات الأرض. يحمل الشعراء البلاد، عبر أبياتهم، ويختلفون في تعريف الغربة، بعدد أنفاس المغتربين، عن أوطانهم، خياراً أو اضطراراً.
فما هي الغربة؟!
أغربة المكان؟
وإن كانت كذلك، فماذا عن الملايين الذين يذهبون باكراً إلى الطبيب، شاكين من كثرة الناس وقلتهم في آنٍ واحد؟
ماذا عن السعيد في بلاد بعيدة، والأم الوحيدة في صدر البيت، تجوبه قلقاً، رجوى عودة مسافر، أو شفاء مريض؟
ماذا نسمي الانتظار، الذي يعيشه موظف من أجل ترقية، لتكون أيامه كلها، هي ذلك اليوم الواقف، في البعيد… البعيد؟
إذن… فالغربة مكانية وزمانية!
ماذا عن غربة المرء في بيته وبين جُلاسه؟
ألم تشعر ذات يوم بأن الحوار الدائر أمامك، لا يشبهك! مثل طبق طعام تناولته، ثم استنكرت طعم مكوناته!
ألم تذهب للنوم مرة، مردداً في نفسك: هذا يوم ليس من أيامي، ليتني أستطيع نزعه من جدار العمر.
قد تضيق بك جدران الغربة، حتى تصبح شبيه المتنبي، حين دخل شعب بوان، في بلاد فارس، وهو في متنزه كثير الشجر والماء، وأمامي في المعجم أن الشِعب، بكسر الشين، منفرج بين جبلين، فعرف أبو الطيب الغربة، قائلاً:
مَغَاني الشِّعْبِ طِيباً في المَغَاني
بمَنْزِلَة الرّبيعِ منَ الزّمَانِ
وَلَكِنّ الفَتى العَرَبي فِيهَا
غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ
مَلاعِبُ جِنّة لَوْ سَارَ فِيهَا
سُلَيْمَانٌ لَسَارَ بتَرْجُمَانِ
ففي بلاد الفرس، يجد العربي نفسه، حتى اليوم، في ثلاثة أطوار من الغربة: غربة الملامح، التي عبر عنها صاحبنا، بغريب الوجه، وغربة اليد، وإن اعتبرها الشراح اختلاف خط العرب عن خطوط الفرس، إلا أني شخصياً، بمحبتي لأبي الطيب، وكفاها صلة مع شعره، أحسبها غرابة الطباع واختلافها، فالعرب تقول: فلان طويل اليد، وكريم اليد، وقد تكون اليد رمز السلطة والقوة والبذل والمنع، فبذلهم ومنعهم، غير بذل العرب ومنعهم. والغربة الأخيرة البينة، غربة اللسان، وهي من أقسى أنواع الغربة، ومنها تنشأ باقي العذابات.
ورهافة طبع صاحبنا، لا تنكر الجمال المستوطن في الشِعب، رغم ألم الغربة بين جنبيه، فالمتنبي لا يمنع عينه التلذذ بالبستان، ولا يبخل على محبيه بوصف فاتن لشعب بوان:
غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَا
على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ
فسِرْتُ وَقَدْ حَجبنَ الشمسَ عني
وَجِئْنَ منَ الضِّيَاءِ بمَا كَفَان
وَألْقَى الشّرْقُ مِنْهَا في ثِيَابي
دَنَانِيراً تَفِرّ مِنَ البَنَانِ
لهَا ثَمَرٌ تُشِيرُ إلَيْكَ مِنْهُ
بأشْرِبَة وَقَفْنَ بِلا أوَانِ
وَأمْوَاهٌ تَصِلّ بهَا حَصَاهَا
صَليلَ الحَلْي في أيدي الغَوَان
اكتفى من الضياء بما سمحت به الأغصان، وهذا ما ذهب إليه الواحدي في شرحه، فعد ضوء الشمس لا الندى هو ما وقع على أعراف الخيل، وتتضاءل الشمس حتى لا يبقى من حرها، إلا أثر بحجم الدينار على الثوب.
وأجمل من ذلك كله، أن يكون العربي الغارق في ألم الغربة – لحظتها – مفتوناً ومشغولاً بهذه التواصيف العجيبة، كقوله أن الثمار الممتلئة بالماء كأنها أشربة وقفن بلا أكواب!
والأعجب من وصف أبي الطيب، زعم البرقوقي في شرحه، أن هذا المعنى الفريد منقول من البحتري في قوله:
يخفي الزجاجة لونها فكأنها
في الكف قائمة بغير إناء
وأرق منهما في وريقاتي، ما نقل عن السهروردي المقتول، ونسب للصاحب بن عباد، وتارة للحسن بن هاني:
رق الزجاج ورقت الخمر
فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر
إن الغربة الأشد، بعد غربة المكان والزمان، هي غربة اللسان، لذا كانت الرابطة القلمية، تردم بعض غربة شعراء المهجر في أميركا الشمالية، وجددها من المعاصرين العرب، وألحقوا باسمها: الجديدة، للتفريق بينها وبين الأولى.
وفي سياق الغربة، ها هو أمية بن أبي الصلت، يعدها مجالسة من لا توافقه في الاهتمامات:
وما غربة الإنسان في غير داره
ولكنَّها في قربِ من لا يشاكلُ
وأجمل منه قول أبي الطيب:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بدُ
وأعظم النكد، اغتراب لحظة الفرح والصفاء، وما أقساها من غربة.
وقفزة سريعة إلى الأندلس حيث اختار أبو بكر الإشبيلي الفقر تعريفاً للغربة، ولو كنت في وطنك، ووفرة المال في غربتك وطن، وفي تعريفه صحة، لكنه بالغ في توصيف المعنى، حتى أوشك أن يكون رأسمالياً:
الفَقْرُ في أوطاننا غربة
والمالُ في الغربة أوطانُ
والأرضُ شيء كلها واحدٌ
والناسُ إخوانٌ وجيرانُ
وعوداً على غربة المتنبي، التي يحاول الهروب منها في الشعب الفارسي، بإمتاع ناظره يستنطق أبو الطيب حصانه، كأفصح من يسامر، حينها:
يَقُولُ بشِعْبِ بَوّانٍ حِصَاني
أعَنْ هَذا يُسَارُ إلى الطّعَانِ
أبُوكُمْ آدَمٌ سَنّ المَعَاصِي
وَعَلّمَكُمْ مُفَارَقَة الجِنَانِ
فالحصان المتعب من ترحال أبي الطيب، يسائله: لمَ كل هذا التعب؟
أليست الحياة لحظة كهذه، ولو في بلاد الآخرين؟
أم هو شقاء ابن آدم مذ عوقب بالهبوط من الجنان؟
حصان أبي الطيب، ليس وحده المستغرب من شقاء الإنسان بنفسه – حِلاً وترحالاً، بل إن مغترباً طويل الاغتراب، محباً للحياة، هو إيليا أبو ماضي، يجعل الغربة حالة ذهنية، من حالات الشقاء، يجب على الإنسان تجنبها، وعدم التفكير فيها:
مات النهار ابن الصباح فلا تقولي كيف مات…
إنّ التأمّل في الحياة يزيد أوجاع الحياة…
فدعي الكآبة والأسى واسترجعي مرح الفتاة…
قد كان وجهك في الضّحى مثل الضّحى متهلّلا…
فيه البشاشة والبهاء…
ليكن كذلك في المساء…
كفانا الله وإياكم شرَّ كل غربة لم نخترها، أو تتسبب في ضُرٍ أو نكد!
جميع الحقوق محفوظة 2019