يكثر الكلام عن الموسيقى، وأثرها في النفوس، ذلك الأثر الذي يراد به القادم من الخارج إلى الداخل… لكن ماذا عن الإيقاع الداخلي للإنسان؟ كيف يخرج وما هي آثاره؟ وهل تكفينا اللغة لتتبع طباع شعب يقودنا الفضول للتعرف عليه، أو لفهم حضارة تجاورنا على هذا الكون؟ كلما قرأت أن الموسيقى لغة عالمية، استعدت قناعتي أن اللغة، بل حتى اللهجة المحلية، أكثر إيقاعاً في النفس، وطرباً للروح، من أي موسيقى خارجية، مهما اتفقنا، ولو لأجل أن يكتمل الحوار، على أن «الموسيقى لغة عالمية».
لست أنتقص من أثر الصوت الجميل، والوتر الفصيح، على أذن حساسة، أو قلب طروب، بل أنحاز للجهة الأخرى من الفكرة، التي يقال عنها اللغة، تلك التي يبكي بها الشعراء، وترقص جذلاً بها الجميلات، ويواسي المحزونون بها بعضهم، بل وتخدم أغراضاً أكثر من ذلك، ابتداء بالرثاء – الذي أعده شخصياً – أصدق ما يقوله الإنسان، وصولاً للإخوانيات، التي قلَّت في زمن السرعة هذا، وهذه ليست خسارة فادحة للشعر والأدب فقط، بل خطر كبير على اللغة، فمع اختفاء نهر من أنهار اللغة، تحزن المحيطات، وتتوقف السحب عن الترحال.
يقال إن الإخوانيات، ضرب من اللغة الانفعالية – وذلك يزيد ولا ينقص من قيمتها – فهي صادقة وجارحة وموغلة في الحقيقة، وهذا التعريف القصير المكثف، يرفعها من بساط اللغة إلى حالة المزاج، وكريمة هي آداب الأخوة، التي لا تقتصر على الشعر، بل تفتح أبوابها للنثر، فالحالة المزاجية ليست حالة عمودية جافة وحسب، بل هي ضحكة بين عجوزين، ومسامرة بين صديقين، واعتراض ببسمة صادقة بين قاضٍ ومحكوم.
وحبي لشعر الإخوانيات نابع من تجربة واقعية صادقة، فحين كنت أعد برنامج «إضاءات»، كنت أبحث عما قيل في الضيف – إن كان من أهل الأدب – وقلَّ أن أذكر ضيفاً بأبيات من شعر الإخوانيات، إلا وامتلأ الجو ضحكاً وحكايات.
في أوراق العبد الفقير إلى الله، أن الشاعر كاظم الطباطبائي، مازح سفيرنا المرحوم الدكتور غازي القصيبي، بثلاثة أبيات جميلات:
لا النثر لا الشعر ولا أرجازي
تحصي فضائل شعركم يا غازي
إني قرأتك في جرائد جمة
ورأيت فيك حلاوة التلفاز
من سكَّر القصب اصطفيت قصيبه
فحلوت في التفضيل والإيجاز
ولأن هذا اللون الجميل، متنازل عن الكلفة، فهو يصعد من درج الحاجة والاستعطاف، إلى عتاب الأب وعشم الصديق، بل وقد يبدأه الصغير مستفزاً الكبير إيجابياً، وتلك عظمة الشعر، فهو باب إن فتح لصاحبه – ولو شباكاً صغيراً – عبر الجسور، ولم توقفه حدود.
وباب الإخوانيات قديم قدم الفكاهة والضحكة بين الجلساء والندماء، بل قد تحدث عنه أرسطو (384 ق.م – 322 ق.م) في الشعر والخطابة، وتناوله هوراس (65 ق.م – 8 ق.م)، صاحب نظرية أن الشعر يجب أن يقدم السعادة والإرشاد. إنه باب وفنٌ قديم، بين العرب خصوصاً، في ليالي الشتاء الطويلة، بل وخلال الحروب والطعن والمبارزة، وبين الشعراء حين يلتقون دون ميعاد، ولا أشهر من ألغاز عبيد لامرئ القيس، ففي ديوان امرئ القيس بن حجر – صاحب المعلقة – أن عبيد بن الأبرص لقيه فسأله: «كيف معرفتك بالأوابد»؟
فقال امرؤ القيس: «قل ما شئت تجدني كما أحببتني»، وأختار هنا شاهدين من هذا الحوار – الذي إن صدقت روايته أو ثبت خلاف ذلك – لم ينقص من جمال التحدي شيئاً، وهنا بعض استجواب بن الأبرص للكندي:
ما السُّودُ والبيضُ والأسماءُ واحدة
لا يستطيعُ لهُنّ النّاسُ تَمسَاسَا؟
فقال امرؤ القيس:
تلك السحابُ إذا الرّحمانُ أرسلها
روّى بها من مُحول الأرضِ أيْبَاسَا
فأردف عبيد بن الأبرص:
ما القَاطِعاتُ لأرضٍ لا أنيس بها
تأتي سِراعاً وما تَرجِعنَ أنْكاسَا؟
فقال امرؤ القيس:
تلك الرّياحُ إذا هَبّتْ عَوَاصِفُها
كفى بأذيالهَا للتُّربِ كنّاسَا
وقد اخترت بيتين غير أن الثالث، عزيزي القارئ، يصعب تركه، فاعذرني فيه عذرك الله، خصوصاً مع كثرة التعازي المفجعة، الأسبوع الماضي، فهذا عبيد يسأل:
ما الفَاجِعاتُ جَهَاراً في عَلانِيَة
أشدُّ من فَيْلَقٍ مملُوءة بَاسَا؟
فقال امرؤ القيس:
تِلكَ المَنايَا فَمَا يُبقِينَ مِنْ أحدٍ
يَكفِتنَ حمقَى وما يُبقينَ أكيَاسَا
وحين عاد شاعر العراق الكبير، عبد الرزاق عبد الواحد، رحمه الله، من سفر، وجد المرحوم منذر الجبوري قد حل مكانه، وصار شاعرنا موظفاً تابعاً للجبوري، فكتب عبد الرزاق إلى صديقه وزير الإعلام آنذاك شفيق الكمالي:
صار عمي وكان أمس غلامي
فا…. يا وزارة الإعلام
وإخوانيات عبد الرزاق كثيرة وجميلة جداً، وأهلنا في العراق شهيرون بالإخوانيات، ناهيك أن مقاهي القاهرة كانت مسرحاً لكثير من الإخوانيات المباشرة، ولو أن توثيق هذا الفن في لبنان، أكثر من العراق، ومصر.
ارتجل طه حسين، في العقاد، مهاجماً:
وآية العقاد ضيق الصدر
فليس يدري أنه لا يدري
كمثل عصفور بكفي صقر
حين يساوي شعره بنثري
فرد عليه العقاد، ضيق الصدر، فوراً:
إسفنجة تسعى لشرب البحر
وشمعة تطفئ ضوء البدر
والشيخ طه في انتقاد الشعر
ثلاثة مضحكة لعمري
ولأن الفنون أرض الاكتشافات والتجارب، فقد خرج من شعر الإخوانيات، فن التشطير الطريف، وشرح ذلك أن يريد شاعر مداعبة شاعر آخر، فيعمد لتشطير أبياته، أي يرجع البيت إلى شطريه، فيزيد على كل شطر أصلي شطراً من عنده، ومنه بيت ينسب للسيد محمد الحبوبي:
ظبية من آل مالك
أوقعتني في المهالك
فشطره مباشرة الميرزا جلال الدين التقوي:
ظبية من آل مالك
بدر تم في الحوالك
بين نهديها مهاد
أوقعتني في المهالك!
أفلا تدرج هذه المفاكهات المطربة ضمن لغة الكون المموسقة أيها الكرام؟!
لست أعترض على الموسيقى وأثرها، لكن عدم حساب هذه الملاطفات والمناكفات، وجميل المطارحات، ضمن الموسيقى، ظلم للموسيقى، قبل أن يكون ظلماً للغة.